بقلم براءة عوض ناشطة نسوية ومجتمعية

لا يمكننا تجاهل حقيقة وجود العنف في جوهر السلطة الحديثة، وعلى مر العصور حاول العالم التخلص منه أو تقييده، ربما ادّعت الفلسفة السياسية أنها تملك وسائل لتجنب العنف أو تقييده، سواءً من خلال الشعب أو الأمة أو الديمقراطية التي لم تكن إلا وسيلة لتنظيم العنف على مر التاريخ، نؤمن أن السياسة بحد ذاتها عنف، كما أدركها المناضل وعالم الاجتماع فانون[1] وغيره، وتجاهل هذه الحقيقة يؤدي إلى تعمق الوهم بأن السياسة والسياسي خاليان من العنف، إن العنف هو الهيكل الذي يتجسد في السياسة والسياسة هي التعبير الأكثر عمليةً و”تحضُّراً” عن العنف.

تاريخ الابتزاز والاستغلال الجنسي قديم قدم بداية التجمعات الإنسانية، ففي ظل ظروف مركبة وبنى اضطهاد وعنف متقاطعة يُنتجُ هذا الواقع فئة من المجتمع تكون الأضعف والأكثر تعرُّضاً لضغط الابتزاز الجنسي، ويشمل التاريخ الكثير من الأمثلة على استغلال النساء الأصلانيات في سياقات الاستعمار، إذ كانت المجتمعات الأصلانية تعاني من العنف الاستعماري فقوى الاستعمار تستغل وتهين المستعمَرين ولا سيما النساء.

على صعيد الاستعمار الصهيوني فقد استخدم أجساد الفلسطينيين/ات لا فقط للحصول على معلومات تضمن الحفاظ على “أمن المستعمر”، بل كمحاولة لتطويع وتركيع الفلسطينيين/ات وإذلالهم/ن وإهانتهم/ن، استغل العنف الاستعماري البنية الأبوية والذكورية من أجل الاستيلاء على الأرض وإخضاع المستَعمَرين/ات، وساهم الاستعمار في تقوية هذه البنية من خلال العنف الجنسي تجاه الفلسطينيين/ات، وأجسادهم/ن من خلال التحرش والاغتصاب والابتزاز والتهديد “بالفضح” والتهديد بالعار واستخدام الشرف كأداة لردع المقاومين/ات الفلسطينيين/ات وإجبارهم/ن على الاختيار بين “الأرض والعرض”، كما تخبرنا الشهادات الشفوية الموجودة لدينا اليوم نقلاً عن الناجين والناجيات من المجازر التي ارتكتبتها العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين/ات بين عامي 1947-1948، عمّا حصل في هذه المجازر من اغتصاب للنساء أمام عائلاتهن، وبقر بطون الحوامل والتمثيل بأجسادهن كما حدث في مجزرة دير ياسين التي هُجِّرَت قرى ومدن فلسطينية بعد تناقل أهوالها خوفاً من تكرار ما حصل فيها من جرائم.

لم يفتأ الاستعمار ومنذ سنوات طويلة عن تنظيم وتطوير عمليات ابتزاز وإسقاط النساء وعائلاتهن سواء لمحاولة ثنيهم عن المقاومة، أو لضرب النسيج الاجتماعي الفلسطيني من خلال استغلال العادات والتقاليد المجتمعية، إذ تأتي هذه المحاولات للضغط على الفلسطينيين/ات للعمل وتقديم المعلومات لأجهزة الاستعمار الصهيوني ومساعدتهم في اختراق المجتمع الفلسطيني، وأيضاً لإشباع رغباتهم السادية في الشعور بالتفوق على المستَعمَرين، كما يحدث اليوم بعد السابع من أكتوبر وفي خضم العدوان على غزة، والأوضاع التي يعانيها الأسرى والأسيرات في السجون الصهيونية.

إذ لا يكاد ان يمر يوم دون أن نسمع تجارب الفلسطينيين في السجون الصهيونية المليئة بشهادات التحرش الجنسي والاغتصاب، والتهديد بالاعتداءات الجنسية الجماعية، كما الأسرى جميعاً، تعاني الأسيرات الفلسطينيات من أقسى وأشد الظروف في السجون الصهيونية، حيث يُنكَّل بهنّ وأيضاً يتم تهديدهن بالاغتصاب، ففي نوفمبر 2023 كشف محامي الأسيرة لمى خاطر أن المخابرات الصهيونية هددت الأسيرة لمى باغتصابها وإبعادها مع أولادها إلى غزة وقتلهم/ن جميعاً.

إن اعتداء الكيان الصهيوني على الأسيرات لا يقتصر على الضرب والتحرش والتهديدات بالاغتصاب، بل يشمل أيضاً حرمانهنّ من التواصل مع عوائلهن ورؤيتهم، حرمانهنّ من العلاج الجسدي ومن الاستحمام ونزع ملابسهنّ والاستمرار بالتلفظ بالألفاظ النابية والمعيبة لهن ولأجسادهن كما رَوَت الأسيرات اللّواتي تم الإفراج عنهُن في الضفة الغربية وغزة، وأيضاً أكدّ الأسرى المفرج عنهم/ن أن الأسيرات والأسرى من غزة يتم وضعهم/نّ في أقسام منفصلة عن الأسرى/الأسيرات من الضفة ويتم تعنيفهم/نّ جسدياً وجنسياً بشكل مضاعف، وأكدت الأسيرة المحررة ن.ز المفرج عنها من قطاع غزة تعرضها للتعذيب بالضرب على الرأس واحتجاز بعض الأسيرات في ثلاجة لمدة ثلاث ساعات، ونزع حجاب الأسيرات والاعتداء على أجسادهن بالضرب، وتعمُّد لمسهنّ والتحرش بهنّ.

في الضفة الغربية وقبيل السابع من أكتوبر، اعتاد الفلسطينيون/ـات على سماع تجارب أصدقائهم/ن وعوائلهم/ن على الطرق والحواجز وفي السجون الصهيونية والاقتحامات الصهيونية للمدن الفلسطينية، حيث حاول الاستعمار الصهيوني القضاء على المقاومة واستغلال كافة الطرق لتحييدها، وبعد السابع من أكتوبر، ازدادت الآلة الاستعمارية توحشاً في محاولة للتعويض السادي عن الفشل الأمني فازدادت حالات الاعتقال للنساء (الأمهات والزوجات) بهدف ابتزاز أزواجهنّ و/أو أولادهنّ لتسليم أنفسهنّ.

أما الحواجز الاستعمارية التي يعاني منها الفلسطينيون الأمَرَّينِ: الانتظار لساعات طويلة للمرور والعبور إلى مدنهم وقراهم، والتحرش ومحاولات الإذلال سواء من خلال الإيذاء الجسدي (الضرب العنيف)، أو من خلال التحرش الجنسي، وهناك العديد من الشهادات التي ترويها النساء عن تعمُّد جنود الاستعمار الصهيوني لمسَهنّ بحجة التفتيش على الحواجز، وأيضاً تعرُّضهنّ للشتم بالألفاظ النابية التي تستهدفهن كنساء.

على الصعيد الداخلي الفلسطيني تواجه الحراكات الاجتماعية – السياسية تراكم كثير من الأولويات نتيجة تفاقم أوجه الظلم والاضطهاد من عدة جهات، وبالرغم من أهمية الخطاب حول أولويات النضال المناهض للاستعمار، إلا أنه بات ضرورياً اليوم نزع  الغطاء عمّن يتستر على قضايا الاستغلال الجنسي والابتزاز.

برعت السلطة الفلسطينية في استخدام الابتزاز لتفريغ الشارع الفلسطيني، فهناك نساء ورجال أيضاً تم إسقاطهم لصالح السلطة الفلسطينية، وهنا غالباً ما تكون الفئة المستهدفة أكثر وضوحاً، فيتم تهديد النساء والرجال الذين ينشطون بشكل واضح سياسياً سواءً في تنظيمات وأُطُر أو بشكل فردي، أو من خلال استهداف أشخاص لهم توجُّه فكري وسياسي معادٍ للسلطة وقد يشكلون تهديداً على مشروعهم السياسي “المشروع الوطني”.

والتهديد هنا قد يأخذ أشكالاً مختلفة، فأحياناً قد تستطيع السلطة إسقاط هؤلاء الأشخاص عبر تهديدهم بوجود مادة مصورة ما، وهنا تأخذ عملية الإسقاط شكلاً فردياً عبر استهداف أفراد بشكل واضح ومحدد، بينما الشكل الآخر من التهديد أو الابتزاز يكون عبر التشكيك بشرعية مجموعات ما تنشط سياسياً ضد السلطة وذلك عبر استخدام قضايا اجتماعية في نزع الشرعية عن نضال هذه التحركات.

ان استهداف الاستعمار الصهيوني وأدواته لأجساد النساء ليس بالجديد ولم يظهر فجأة “بسبب السابع من أكتوبر”، ففي الخامس من أيلول 2023 تم توثيق اعتداء المجندات الصهيونيات على نساء عائلة في الخليل وتهديدهن بإفلات الكلاب عليهن إذا لم يقمن بخلع كافة ملابسهن، وعدم السماح لهن بمعانقة أطفالهن وسط حالةٍ من الرّعب والخوف التي عانى منها الأطفال برؤية المجندات الصهيونيات يقمن بتعرية أمهاتهنّ وتهديدهنّ.

استخدمت السلطة الفلسطينية هذه الطريقة بشكل مكثف في أحداث نزار بنات، عندما حاولت نزع الشرعية عن التحركات في الشارع الفلسطيني ضدها وضد عملية اغتيال الناشط نزار بنات، إذ قامت السلطة حينها بالترويج لخطاب ذكوري يزيل شرعية هذا التحرك عبر إلصاق تهم أو ادعاءات للناشطات أو الناشطين في الشارع على أنهم “منحلون أخلاقياً”، ” شواذ”، “كفار” ووصمات اجتماعية أخرى سواء استطاعت السلطة إثباتها أو لم تستطع، وفي هذه الحالة مثلاً وبعدما قامت السلطة بسرقة هواتف المتظاهرات والمتظاهرين، قامت بتسريب صور شخصية لبعض المتظاهرين/ات بملابس قد تكون غير “مقبولة اجتماعياً” أو مظاهر غير مرغوبة، وأحياناً أخرى بتلفيق بعض الصور ودبلجتها وإلصاقها ببعض المتظاهرين أيضاً، من أجل نزع الشرعية المجتمعية عن هذا التحرك وتصوير المتظاهرين/ات على أنهم تحرك ضد المجتمع وأخلاقه، لا تحرك ضد السلطة، عبر استخدام القضايا الاجتماعية وتحديداً الجانب الجنسي منها ضد هؤلاء النشطاء/ الناشطات، إن ممارسات السلطة الفلسطينية العلنية والسرية التي تتمثل بالقمع والإسقاط والتهديد والابتزاز ما هي إلا محاولات إفراغ للشارع الفلسطيني من حالته الثورية وحتى التعاضد الاجتماعي والحد من مشاركة النساء ووجودهن في الفضاء العام وبالأخص في الشارع، وهذا يضمن الحفاظ على الوضع القائم المتمثل في الإبقاء على الامتيازات التي يتمتع بها العاملون في السلطة لا سيما رموز السلطة، ويتضمن ذلك استهداف نشطاء اجتماعيين عملوا على قضايا اجتماعية على دوار المنارة في رام الله لينتهي بهم المطاف في السجون الصهيونية عبر التنسيق الأمني.

ان استهداف الاستعمار الصهيوني وأدواته لأجساد النساء ليس بالجديد ولم يظهر فجأة “بسبب السابع من أكتوبر”، ففي الخامس من أيلول 2023 تم توثيق اعتداء المجندات الصهيونيات على نساء عائلة في الخليل وتهديدهن بإفلات الكلاب عليهن إذا لم يقمن بخلع كافة ملابسهن، وعدم السماح لهن بمعانقة أطفالهن وسط حالةٍ من الرّعب والخوف التي عانى منها الأطفال برؤية المجندات الصهيونيات يقمن بتعرية أمهاتهنّ وتهديدهنّ.

“يجوز في حالة الحرب اغتصاب الفلسطينيات وغير اليهوديات” كانت هذه إحدى فتاوي الحاخام الصهيوني أيال كريم الذي لا زال يشغل منصب الحاخام الأكبر لجيش الاحتلال الصهيوني منذ عام 2016. إن الدعوة لاستهداف أجساد الفلسطينيات لم تكن صُدَفاً منعزلة أو محض أفكار فردية، بل أسلوباً ممنهجاً للصهيونية ومؤسساتها الأمنية والدينية وكجزء من الحركة الصهيونية. وتعود بنا الذاكرة إلى الأسيرتين والمناضلتين عائشة عودة ورسمية عودة،  إذ  تُحَدّثُنا عائشة من خلال الروايات القصيرة التي وثقت فيها تجربتها في التحقيق والأسر، عن تعرضها للتعذيب الشديد بما في ذلك اغتصابها وعرضها عارية على رفاقها، وتجربة رسمية عودة التي تعرضت للتعذيب الشديد وإحضار والدها لمشاهدتها عارية، وتعرُّض رسمية ووالدها للتعنيف النفسي والجنسي من قبل قوات الاستعمار الصهيونية عام 1969.

إن استحضار قصة عائشة ورسمية والنساء اللواتي لم نعرف أسمائهُنّ على مر تاريخ العنف الاستعماري، وتجارب الفلسطينيين والفلسطينيات الآن وفي هذا الوقت هي لتذكيرنا أن هذا هو الوجه الحقيقي للمستعمر، وأن مواجهة المستعمر ووكلائه تتطلب منا اليوم خلق حاضنة اجتماعية حقيقية تتمثل في احتضان أبنائنا وبناتنا ومن  تَعَرّض لتجارب مشابهة، وأن المسبب الرئيسي لكل هذه التجارب المؤلمة والجرائم هو الاستعمار وأعوانه، أو كما قالت عائشة “الاحتلال هو الشر المطلق، وما دون ذلك فهو شر جزئيّ!”.

روت عائشة أنها كانت تُشحَن بالصمود والتحدي مع كل ركلة وتقول هذا ثمن المواجهة! ونحن اليوم اخترنا أم لم نختر أن نواجه، هذا هو ثمن وجودنا، إنها حرب وجود، وإن استهداف أجسادنا هو استهداف وجودنا، فجميع الأدوات التي يستخدمها المستعمر الصهيوني سواءً كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو جسدية أو جنسية ما هي إلا محاولات لتركيع الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، وأيضاً استهداف النشطاء في الشارع الفلسطيني من قبل السلطة الفلسطينية ومحاولة تفريغ الشارع من كل مكوناته النضالية والثورية وحتى السلمية منها للحفاظ على وعودهم للعم سام وحلفاء الشر المطلق تتطلب منا اليوم استعادة مساحاتنا التي سيطرت عليها السلطة الفلسطينية بأساليب استخباراتية تماهت فيها مع المستعمر الصهيوني، وأن حتمية إنهاء الاستعمار كما أشارت إليها مقاومتنا تتمثل بالعنف الثوري دون الاستسلام للقمع والابتزاز العسكري وتأطير تجاربنا الفردية ضمن المواجهة الجمعية تجاه المستعمر و وكلائه.

[1]  فرانز فانون طبيب ومناضل وفيلسوف فرنسي جزائري، انضم إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية وكتب عن قضايا الاستعمار وإنهائه، ونظّر لثورة الشعوب وتفكيك الاستلاب (الاغتراب الاجتماعي) الذي يسببه الاستعمار للشعوب المُستعمَرة.