Home 5 الأخبار والإعلانات 5 العنف الاقتصادي بين العمل المنزلي والعمل من المنزل

read in English

العنف الاقتصادي بين العمل المنزلي والعمل من المنزل

Feb 16, 2025

 

نورهان الطباطيبي، سفانة أبو صافية

كانت بيوت غزة مثل معظم بيوت المنطقة، تقوم على أكتاف النساء. على جهدهنّ في التنظيف، على خوفهنّ على الزجاج..وعلى حرصهنّ على أن يخبّئن بعض أطقم الزجاج في خزائن العرض، على متابعة أناقة أفراد العائلة، عبر ترتيب ملابسهم..كيِّها، طيِّها وربما حياكتها، على إعداد الطعام الذي هو أكثر من مجرد وقوفٍ في المطبخ..إنه جُهد إعداد المونة، ومعرفة الفصول عبر مواسم تخزين الطعام، وغزة تعرف آخر صيفها وأول خريفها عبر أيدي النساء المُشتَغلات في تخزين الشَّطّة. 

بيوت تقوم على قهوتهنّ..المُكافأة، بعد يومٍ مُتعِب، وكان “القمر يضوي على الناس والناس بيتقاتلوا” كما تقول فيروز..بيوت بمشاكل صغيرة وكبيرة، ذهبت البيوت ومعها المشاكل الصغيرة، وصارت المشاكل الكبيرة مصاباً جللاً، وصارت أكتافُ النّساء وتاد كلّ خيمة، يُنظّفنَ أرض كل خيمةٍ من الرمل..وما أكثرَ رمال غزّة! وقد صِرنَ يَخَفنَ على شفاه أطفالهنّ من أن تقطمها حواف المعلبات الحديدة بعد أن صارت كاسات للشرب..وقد بعثر طيران الاحتلال كل زجاجٍ ادّخَرنَهُ في حياةٍ قريبة، لكنّها سابقة.

كانت الدوائر النسوية في القطاع تتسع لحوارات جندرة العمل المنزلي قبل حرب الإبادة، وحاولت تلك الحوارات ألّا تحصره بأن يكون مُلقىً على كاهل النساء فحسب، وقد عملت على ذلك من خلال ورش التوعية التي استهدفت كلا الجنسين، من أجل خلق مساحة مشتركة بينهما يشارك كل فيها الآخر في أداء الواجبات المنزلية. كذلك كانت الدوائر النسوية تتسع لدراسة حال النساء العاملات وتقاطُع ذلك مع التشريعات والقوانين، والتأسيس للذهاب بالمجتمع المُحاصَر والمُنهَك من الحروب المتكررة، والانعزال عن امتداد الوطن بفعل الحصار والانقسام الداخلي نحو منظومة قانونيّة تحمي المرأة العاملة، لأن عمل النساء لم يكن دائمًا خيارًا حرًا، فالبلاد ضيّقة وتضيق والمال حسب الأغنية الفولكلورية الفلسطينية القديمة كان “يفنى والرجال تجيبه”، الآن المال يفنى..وعلى الجميع العمل، لتعيش العائلة بكرامة وقد لا تقدر على تحصيل ما ذهب من المال.

ثم جاءت الحرب، إبادة بعد حروب متعددة، ساهمت في خلق العديد من العوامل المتغيرة على البيئة الاجتماعية والتي بدورها ألقت بظلالها على كافة فئات المجتمع خاصة النساء، فكما لم تَسلَم الأجساد من هذه الإبادة فإن أدوارنا الجندرية أدخلتنا بمنافسة..من يتعب في هذه الحرب أولًا؟ ومن تركت الحرب على أكتافه أحمالًا أثقل، المرأة الحامل في خيمة نزوح، أم زوجها في رحلة البحث عن علبة حليب أطفال؟ النساء في طبخ الطعام في ظلّ غياب المطبخ وحضور الحطب أم الرجال في تقفّي أثر (الكوبونة)؟ 

قبل الحرب كانت الأدوار الاجتماعية تُناقَش من زاوية عدم التوازن والتكافؤ في توزيعها بين كل من الرجل والمرأة، وما نتج عن ذلك من خلق فجوة جندرية وأثرها على نسب العنف وأشكاله خاصة العنف الأسري.

فكيف شكّلت حرب الإبادة عاملًا جديدًا، وعبئًا آخر على النساء في توزيع هذه الأدوار خاصة في طبيعة أداء الأعمال وتبعاتها ضمن سياق الحرب؟ 

 لا سيما وأن الحرب قد تركت النساء وحدهنّ أحيانًا يتلقّين مصيرهنّ دون مشاركة الشريك إلى جانبهنّ؛ إما بسبب فقدان الواحدة منهنّ للشريك في الحرب، سواء بالاستشهاد أو بأسره من قبل الاحتلال، أو بسبب التشرُّد والنزوح كأن يكون كل منهما نازحًا في مكانٍ مختلفٍ عن الآخر، ومن ذلك التأثير فصل الجنوب عن الشمال وتقسيم القطاع. 

العمل المنزلي حتى حين تُهجَّر النّساء من المنازل

أحيانًا يأخذنا الوسواس القهري نحو فكّ الستائر وغسلها، أحيانًا يأخذنا العيد نحو غسل السجاد ونشره، في أحيانٍ أخرى يأخذنا تراكم الأعمال نحو رحلة الركض بين غرف المنزل بجردل الماء والمُعقّمات، وفي مراتٍ كثيرة يأخذنا الدّور الاجتماعي للقيام بالأعمال المنزليّة غير المدفوعة، والقهريّة أحيانًا، والمُسَلَّم بأدائها من قبل النساء والفتيات غالبًا.

ولكن هل تصبح صباحات التنظيف بما في ذلك القهريّة، بما في ذلك غير المدفوعة، بما في ذلك المُجندرة كمُسَلَّمة، بما في ذلك المُلقاة بالكامل على النساء دون اقتسام المهام..هل تصبح من الذكريات التي تُبرهن على كرم الأيام التي قد خَلَت؟ ربما تصبح كذلك بالفعل، حين ينتهي المنزل ولا ينتهي العمل المنزلي، والمنزل فكرةٌ لا جدران، وهذا بالضبط ما اختبرته نساء غزة النازحات، عملٌ منزليّ في مرحلة اللا منزل، أي عملٌ منزليّ في الخيمة.

أما الصامدات في منازل نِصفُها مقصوف، أو في منازل لا تزال تحت سُعار الاستهداف، فإنهنّ يُنظّفن البيوت من غبار الحرب، ويَفتَتِحن الليل في إعداد عشاءٍ قد يكون الأخير، وينفدُ وقتهنّ في ترتيب منزلٍ قد (تكركبُه) قنبلةٌ قد يُسقطها الاحتلال في أي لحظة.

ربما لأن غبار المنزل يعني بالضرورة وجودَه، وإعداد العشاء يعني التحايُل على المجاعة، ربما لأنّ الترتيب يعني أن العائلة ستعيش ليومٍ آخر..هكذا تصنع النساء الصامدات في الشمال تحديدًا والباقيات في البيوت في الوسطى وفي الجنوب فعل المقاومة اليومي.

وحيث يستوي الشقاء على النساء النازحات في الخيام وعلى النساء الباقيات في البيوت، وتختلف آلية ممارسة الشقاء، فبدلًا من الغسيل بواسطة الغسّالة الأتوماتيكيّة، اضطُررن أن يغسلن على أيديهنّ في ظلّ انعدام الكهرباء عن الخيم وانقطاعها تمامًا عن المنازل، وبدلًا من فتح صنبور الماء المتدفق، أصبحت النساء تقف في طوابير تعبئة المياه في جرادل..طوابير اللامأوى بالنسبة للنازحات في الخيام وللباقيات في المنازل. وبدلًا من إعداد الطعام على الغاز وفي الأفران أصبح طهي الطعام على الحطب، لا يختلف في ذلك حجم العبء على النساء، فالنازحاتُ في الخيام يُشعلنَه في زاويةٍ قريبةٍ من الخيمة يُسمّونها المطبخ وهي بالأصل جزءٌ من الشارع، والباقيات في المنازل يحملنَ العبء نحو أسطح المنازل، وهناك هنّ أقرب لسماء غزة المحمّلة بشهوة القتل الصهيونيّة. وجميعهنّ لطعامهنّ -على اختلاف نَفَس الواحدة منهنّ في الطبخ- نكهة الحطب والحرب.

وجميعهنّ حاولنَ اختراع أكلاتٍ من مكوّنات بسيطة متوفّرة في الأسواق الخالية من الفواكه والخضراوات واللحوم لا سيما في شمال القطاع، وبدلًا من غسل الصحون في أحواض المطابخ، اتّخذت بعضهنّ من الجرادل حوضًا مؤقتًا، والبعض الآخر اتّخذنَ من البحر مجلىً عائمًا. في إحدى المقابلات الصحفيّة المصوّرة: تشكو امرأةٌ خشونة يديها من شقاء التنظيف وبدائيّة آلية إنجاز الأعمال، لا أحد سيستجيب، اليدُ المشقّقة وسط الأيادي المُقَطّعة، تصبح على هامش النعمة.

سابقًا كنّا نظلُّ نردّدُ جملة “لا تعتادوا المشهد” وكان يَتركُها أهل القطاع كوصيةٍ أخيرةٍ للعالم، وبينما انقسم الناس بين معتادٍ، وبين رافضٍ للاعتياد..كانت أسماء في القطاع تراقب تّكوُّن اعتيادها، من الصدمة التي استقرت على قلبها خلال بداية الحرب تلك التي اختبرها الجيل المُهجَّر الأول من الفلسطينيين في النكبة، مرورًا في المقارنات بين حياة العمل المنزليّ ما قبل الحرب وخلالها، وحتى صناعة روتين الحرب، ربما لا تعرف من صَنَع الآخر، روتين الحرب أم مقاومتها اليوميّة، لا سيما أنها أمٌ لطفلين توأم لم يتجاوزا الأربع سنوات من العمر، تقول: “الحرب أفقَدَتنا معنى البيت واستقراره، خلّتنا نعيش في خيمة ما قدرنا بالأول نستوعب كيف فينا نتأقلم في هيك ظروف ونقدر نقوم بواجباتنا تجاه العيلة، بس الأكيد إنو بطّلت حياتي تبلّش بإني أصحى الصبح وأتفقد شو ناقص البيت وأرتبه وأنضفه في أقل من ساعة وتكون طبخة اليوم جاهزة، اليوم أنا لازم أصحى قبل الصغار عشان أقدر أولّع الحطب وأعجن صاج لحتّى أفطرهم، وبعدها نصُفّ طابور لحتى نأمِّن حصّتنا من الميّه حتى نقدر نغسل ملابسنا، اليوم عندي عبء مُضاعَف الصغار وملابسهم، حتّى لازم أصفّ على طابور الميّه الحلوة..هالشي ما كان ضمن جدولي قبل الحرب ولا مرة صفّيت طابور انتظار عشان أجيب ميّه، وحتى عشان أجيب لُقمة عيش من التكيّة”.

لا تزال أسماء نازحةً في الجنوب، تعيش روتين الحرب، روتين يهدُّ الجبال، يسمّيه الناس خارج القطاع “صمود” ويعرف أهل غزة أنّه العيش ضمن الممكن في زمن اللا ممكن، وخلافًا لأسماء، فإن كاميليا تغيّر روتينها في الأعباء المنزلية خلال الحرب تغيّراً نسبياً، إذ عادت لبيتها المُدمَّر جزئيًا، ولكن مع شريكٍ مُصاب، هكذا عرفت كاميليا طعم الوحدة المرّ في إنجاز المهام المنزليّة، هذه المرة المهمّة مختلفة عن أي مهمة كانت قد أنجَزَتها، فهذا عملٌ منزليّ في منزلٍ مُدمَّر، تقول: “لما قررت أرجع لبيتي المدمّر نُصُّه كان وقتها زوجي طريح الفراش، بالتالي تحملت عبء تنضيفه أنا وبناتي، صرنا نشيل ردم الحجار التقيلة بأيدينا ونزيح كل الأشياء العالقة في الغرف وكان حجمها كبير،كان نفسي يكون زوجي وقتها قادر يشيل معنا بس للأسف بسبب إصابته في الحرب ما قدر يكون معنا، حسيت إنه قديش الحرب كانت قاسية علينا، وأنه تحملت عبء جديد، كنا زمان فينا نخلّص أي غبرة بمكنسة كهربائيّة اليوم بإيدك وهاد إذا بتقدري، حتى توليع الحطب ما كنت أعرفه ..الحرب علمتني كيف أولِّع عشان نقدر ناكل”.

غادة تغيّر عليها أيضًا روتين العمل المنزلي، رغم أنها لم تنزَح من بيتها، وتغيُّرُ الروتين في الحرب سببه عاملان في تجربة غادة، من جهة، بيتها كان مأوىً لعددٍ كبيرٍ من النازحين والنازحات، بالإضافة إلى أن الحال في المنزل دون وجود مقوّمات الحياة من ماء وكهرباء..يجعله محضَ جدرانٍ مهدّدةٍ بالقصف، تقول: 

“الحرب ما فيها روتين بيت، وروتين تنظيف البيت، فيها إنك تعملي كل شي من طبخ، وغسل، وتغسيل، وطوابير ميه طول اليوم لأنه ما في كهربا ليكون في غسالة، وما في مية بلدية تجيكِ لبيتكِ عبر خطوط البلدية لتعبي ببرميلك، وما في غاز لتعملي الطبخة بأسرع وقت، أنتِ مسؤولة عن نفسك وعيلتك كلها وأحيانًا عن النازحين عندك، في بيتي استقبلت أكثر من ٢٠ فرد من قرايبي فهاد زاد عبء توفير المقوّمات ذاتها، وصار كل شي بده يدخل البيت عبارة عن توزيع حصص من الأكل والشرب وحتى الفراش، ولا مرة كنا إحنا هيك”.

العنف يتقاطع، دائمًا يتقاطع مع أشكال أخرى، صابرين اختبرت تقاطعية العنف الاقتصادي مع العنف الإنجابي، حيث ولدت طفلتها الخامسة في الحرب ووجدت نفسها امرأةً نازحة و (نَفَسَة) كما تصف نفسها، تنزف بعد الولادة في طابور الماء الطويل، تقول: “أول الحرب ما كنت حاسة شو يعني حرب، وشو يعني تفقد كل شي بوقت قياسي وسريع، ما كنت متخيلة إنه أترك بيتي وكل أجهزة البيت وما أقدر أرجعله لأنه ببساطة في “منطقة قتال خطرة” هربت من بيتي وكنت حامل بس لما ولدت طفلتي الخامسة في شهر ديسمبر وكنا في رحلة النزوح والجوع معًا، وقتها ما كنت عارفة كيف أطعمي صغاري، شو أعمل وكيف أدبر نفسي؟.. أنا نَفَسَة بدي حد يرعاني ولاقيتني لحالي بواجه كل متطلبات الحياة والرعاية ونسيت حالي، من تاني يوم ولادة صفيت أنا وزوجي في طابور الميه، وطابور التكية، لازم آخد دور إلي ولزوجي حتى تكون الحصة أكبر للأسف، وبعدها ولَّعت حطب لأنه إحنا عيلة كبيرة”.

سيتقاعد جنرالاتهم ..وسنتذكر

الجنود الذين كانوا ينهبون مطابخ العائلات النازحة، بعد أن استولوا على المنازل وقذفوا بالعائلات نحو العراء، كانوا ينهبون أرواح الفلسطينيات مع كل سطوٍ على الأواني وعلى الأدوات وعلى الماكينات..هذه (عجّانة) وتلك (فرّامة)، وكذلك مع كلّ سطوٍ على (المونة) التي أعدَّتها الأمهات، ثم أكلها العدو ليقوي جسده في قتل أبناء المنزل والأرض، الذين لم يبقَ لهم سوى المعلبات والمزيد من المعلبات، إن وُجدت.

سيتقاعد الجنرالات المحتلّون ومعهم الجنود، ربما قد يستعرضون شهاداتهم حول سرقة مطابخ الفلسطينيات ومنازلهنّ وملابسهنّ! تلك المطابخ والملابس التي أصابتهم بهوس التصوير السمج قبل أداء الجريمة، سيستعرضون خدمتهم العسكرية في قطاع غزة كما فعل أجدادهم في فيلم الطنطورة من استعراض اغتصاب الفلسطينيّات في النكبة، استعراض ليس بالافتخار، بل بشراسة الإنسان المستعمِر المُحتلّ.

حينها سنتذكر نحن بطولة أسماء اليوميّة في روتين العمل المنزلي حين أصبحت الخيمة منزلًا، وسنذكر وحدة كاميليا وهي تصير قبيلة في جسد امرأة تزيل ركام منزلها المدمر لتسكنه وزوجها الجريح وطفلاتها، وسنذكر غادة وقد صارت تمارس العمل المنزلي لعشرين نازحًا ونازحة في بيتها فضلًا عن عائلتها، وسنتذكر صابرين كلما تحدثنا عن العنف المركب وعن تقاطعية العنف، سنتذكر تدفق الدماء بين فخذيها، حين كانت تقف في طابور الماء. حينها سنتذكر الفلسطينيات.

لا يصلح التشيز كيك ما أفسدته إسرائيل.. ولكنها (المَسرّات)

عرفت النساء العاملات في القطاع العنف الاقتصادي، قبل الحرب الأخيرة، عرفنه سابقًا في الحروب وبينها، وكان الحصار الإسرائيلي على القطاع والانقسام الداخلي والوقائع الاجتماعية القائمة على أدوار اجتماعية معيارية وغير مراعية لقانون العمل المنشود من قبل النسويات الفلسطينيات خلال عقود من العمل. كل ذلك مع استبداد المحتل في يوميات السلم، والقتل الموحش في أيام الحرب..كلها عوامل تجعل بيئة العمل في قطاع غزة غير آمنة أصلًا، وضاغطة غالبًا، وغير مستقرة. 

في الحرب أُوقفَت الأعمال في البداية، حيث المجهول وغير المفهوم يأخذ الشعب الفلسطيني نحو التوجس والانتظار، أولًا انتظار نهاية الحرب، فالحروب في غزة تنتهي، لن تصل لعام حتمًا، هذا ما كان يقوله الشارع الفلسطيني، ثم تاليًا صار الانتظار يستجدي صفقة التبادل ولا تأتي، ثم حين يئس الشعب -وفي اليأس حرية الحريات جميعها- وحين اشتدّ الجوع وغياب المساعدات والعَوَز للمال، قررت بعض النساء استئناف الأعمال، أو اختراعها من اللاشيء..ليصبح بين أيدي العائلة شيء اسمه (الشواكل).

 في ظل كل ذلك استمرار النساء في العمل، ينطوي على مقاومةٍ تَجرُّ العالم من أذنه للأمام، العالم الذي جرَّ غزة سنوات نحو البدائيّة في العيش.

رنا المصدر، فتاةٌ من القطاع من المحافظة الوسطى تحديدًا، جعلت التشيز كيك ممكنًا بالحرب، صنعت كريمة البستاشيو بنفسها حين انقطعت من الأسواق، جعلت السينابون بلذعة القرفة اللذيذة..طعامًا واردًا في النزوح، وجعلت عيد الميلاد مناسبةً من الممكن الاحتفال بها عبر توفير قوالب الكيك المُعدَّة لتناسب أعياد الميلاد، من خلال عمل رنا صار ممكنًا أن يرسل الناس طبقاً من الحلوى لأحبّتهم في القطاع، مهما كانوا بعيدين جسديًا عن الحرب، لكن المسافات مع مشروع رنا كانت تبدو كذبة، من الممكن أن تتحول قطعة الحلوى لقُبلةٍ على جبين من نحب، حين يصبح السكر مشتهى المذاق في الفمّ وفي الأيام، تقول رنا: “أعمل في صناعة الحلوى والكيك من قبل بداية الحرب وهيّا هوايتي، من بداية السابع من أكتوبر أوقفت عملي بسبب الأوضاع اللي بمر فيها القطاع ولكن بعد ما اندلعت أزمات الغاز والسكر والطحين في بداية شهر ١٢ لعام ٢٠٢٣ فأصبحت الناس تتهافت على موقعي لإنها تشتهي أكل قطعة من الحلوى لحتى تمدهم بالطاقة في بداية الأجواء الباردة وأنا سرعان ما تعاطيت مع متطلباتهم فعدت للعمل لكن ضمن الموارد الخام الشبه متوفرة وبصعوبة كانت الأشياء شحيحة وتتوفر بمعجزات فبدأت بتوفير يوميًا من ١٠٠-٢٠٠ قطعة من السينابون والكيك البيتي”. 

بالفعل أتذكر الصديقات والأصدقاء في الجنوب أتذكر فرحة صناعة الفطير المشلتت من اللاشيء، أتذكر فرحة الصديقات والأصدقاء في الشمال حيث الكيك المنزلي، يخلو من أي إضافات، لا شوكلاتة ولا كريمة ولا فواكه تزينها، لكنه كيك بالفعل، أتذكر فرحة الطعم الحلو في الجنوب وجملة “زمان الناس ما حلّت تمها”..أتذكر فرحة الشمال بالطعام المخبوز، طعام مخبوز بالطحين وليس الأعلاف!

عادت رنا لعملها بسبب الضغط على الطلب، تقول:

“عدت لعملي وأصبحت أُروّج لعملي عن طريق منصة الإنستجرام ووجدت دعماً واستحساناً من المتابعين وحتى إنو عدد كبير من المتابعين من مختلف البلدان صاروا يتواصلوا معي لحجز طلبية وإرسالها هدية كتعزيز من الدعم والصمود لأحبتهم المتواجدين في جنوب القطاع ولإدخال الفرحة لقلوبهم، وبالرغم من الصعوبات والتحديات لكن الشغف لم ينقطع ولو ليوم”، يدبّ في القلب رعبٌ خفيّ من تحول الأحلام، كان أهل غزة، يحلمون مثل فلسطينيي الشتات بالنصف الآخر من الوطن، النصف الذي حُرموا منه بفعل حصار المحتلّ، ربما حلموا بتذوّق الكنافة النابلسية بنابلس، بطعم البوظة في شارع ركب في رام الله، في الهريسة ربما التي يصنعها أصحاب البسطات في جنين..لكن كل الأحلام تبدلت في الخيام، حيث يحلم الإنسان في الخيمة بأطباق غزة قبل الحرب، بقطعة كيك، ليس أبعد.

المشروع في الحرب يواجه كل التحديات الصعبة، أحد الطلبيات خرجت من مطبخها في دير البلح نحو مخيم في البلوكات الموجودة في منطقة الزوايدة، وصل قالب التشيز كيك بعد قصف المخيم، لم يبق للعائلة غير العراء، الخيام كانت قد ذابت تمامًا، القليل من الأشياء التي يمكن استصلاحها، لكن الناس ربما ابتسمت لعشر دقائق! ما كانت تلك الابتسامات لترتسم لولا رنا ومشروعها، وهي التي تعيش ظروفًا مشابهة تمامًا لظروف زبائنها، تقول: ” من التحديات اللي أواجهها عدم الاستقرار بسبب الإخلاءات المستمرة وغلاء الأسعار المبالغ فيها وتوفر المواد الخام بصعوبة بالغة بسبب إغلاق المعابر وعدم توفر السيولة النقدية الكافية بسبب غلاء العمولة للسحب النقدي واللي وصلت لحد ال٣٠٪؜ ، وبالرغم من كل هاي التحديات إلا إني مستمرة في عملي ووقوفي بجانب أولاد شعبي عبر توفير ما أستطيع من حلويات لحتى تحلي مرار الأيام عليهم”.

لا يصلح التشيز كيك ما أفسدته إسرائيل، لكنها المحاولة، في إضفاء الحُسن في بشاعة اليوم، هذا ما تفعله رنا عبر مشروعها الذي يحسِّنُ اليوميّات في النزوح. وكذلك تحاول هدى في شمال القطاع أن تُعدّ السعادة.

هدى الصفدي قبل الحرب كانت تعمل في أكثر من مجال، تكسب المال وتربي الخبرة: التصميم الغرافيكي، وإدارة صفحات المواقع الإلكترونية، بالإضافة للأعمال اليدوية من صناعة الميداليات الأكريليك وأعمال الحَفر باستخدام الليزر. وبعدها أصبحت تملك متجرًا إلكترونيًا مختصاً في مجال الهدايا، يخدم شمال القطاع. نعم شمال القطاع الذي تنهشه المجاعة والأمراض وخطة الجنرالات، وحرب شرسة لا تعرف تَرَف وقت الهديّة! ولكن هدى تأملت وجه المدينة، وقررت أن الحرب قد تطول وعلى الوجوه أن تبتسم، ثمة من سرق زُرقَةَ بحر غزّة..وثمة من سيُعيدها، وهذه المرة هدى ستضطلع بالمهمة.

جاءت فكرة المشروع قبيل عيد ميلادها، في وقتها كانت صديقاتها الموجودات خارج القطاع يسألنها بالتلميح حول احتياجاتها وحول طريقة توصيل الهدية للقطاع، حينها خطرت الفكرة، تقول:”فكرت ليش ما نعمل متجر هدايا لأهل الشمال، ليش ما نحاول ننشر السعادة بكل الشمال؟”.. نضجت فكرة نشر السعادة بعد استشهاد أحد الأشخاص المقرّبين عليها، قررت من عُمق حزنها وقلبها المكلوم، أن تُسعد القلوب عبر متجرها، أن تمرّ السعادة عبر (بكجات) تُنسّقها في منزلها، قررت أن هذا المتجر وسيلة تواصلها الأخيرة مع أحبتها الغائبين، حيث هذا المشروع كما تصفه: “عن روح من فقدت، وأهدي أجر العمل لأرواحهم”.

نامت على الخاطر واستيقظت على القرار، تقول: “صحيت من النوم حكيت للوالدة بدي أفتح مشروع”. جاء القرار بعد إرهاقٍ نفسيٍّ عنيف عصف بهدى، الفتاة المُعتادة على حياة العمل منذ سنتها الدراسيّة الأولى في الجامعة، فتاةٌ تدرس وتُكافح وتُنجز، ثم فجأة الحرب سرقت كلّ أشياءها العزيزة، وأهمُّها: العمل.

هكذا بدأت في الأسبوع الأول من صباح القرار الذي استيقظت وهي عازمةٌ عليه، فتاة تجوب الأسواق، تحاول، وتتعرّف على التُّجار، لتُحصّل أقلّ الأسعار، هكذا يخفّ مستوى الغلاء عنها وبالتالي عن الزبائن المُحتملين، وأقلّ القليل من الأسعار كان باذخاً في الغلاء، لكنها كانت تفعل كل الممكن لتحصل على ذلك الأقل، تقول: “كنت أجيب أقل الأسعار، عشان أطلع بسعر أرخص من السائد بالسوق، عشان أبيع الناس بدون أي استغلال”.

ثم جاءت مرحلة الاسم، كل مشروع يحتاج لاسم، هاجس خلق السعادة في الشمال ونشرها ظلَّ يراود هدى خلال التفكير في اسم المتجر، تقول: “وبلّشت أدوّر على اسم للمتجر، كنت بدي اسم يدخل البهجة والسرور ولأنو صديقتي وشريكة دربي اسمها سارة، فكان اسم المتجر (المسرّات)”.

هذا الاسم يُدخل المسرّات بالفعل على قلب الشخص الهادي والآخر المُهدى إليه، لكنّها مسرات مسروقة بين موجات من الأحزان تصنعها آلة الاحتلال عبر القصف المدفعي والحربي، وصوت طائرة الدرون “الزنانة”، والدمار الذي تُخلّفه آلاته الحربية حيثما اتجهت الأعين في القطاع، تحديات ترافق هدى ذاتها أثناء العمل، تقول: “بخاف كيف بدي أوفر وسيلة توصيل، وبخاف على الشخص اللي بشتغل معاه، واللي راح أبعته يوصل الطلب أو المناطق الخطرة أو البعيدة، الخوف كله من إنو عدونا ما إلو أمان ..فجأة ببلش القصف الهمجي والمرعب، مرات كتيرة ببلش وأنا بالسوق بشتري بالبضاعة، وبصير القصف وما بقدر أوصف رعب والدتي بهاي اللحظات. وإذا مش بسبب القصف، فالخوف من الانفلات الأمني اللي بالسوق وانعدام الأمن، يعني بكون خايفة أنسرق وبذات الوقت ممكن بأي لحظة الناس بالأسواق تتخانق ويصير طخ بين الناس على بعض”.

العمل في مجال الهدايا، وقد غيّرت الحرب مفهوم الهدايا، فالناس تهدي أحبتها في الشمال سلّات غذائية، تعوضهم بها عن عجز الدول، بعد أن استَكفَت بإرسال الإنزالات التي لا تصل بعدل وحين تصل تقتل البعض وتجرح البعض الآخر وتُرعب الجميع وهكذا تتساقط من السماء فوق خيام من قماش. أصبحت الهدية حفنةً من القهوة أو بعض الظروف من الزهورات، أو معلّبات الطعام، أو القليل من الطحين إن توفر، في وقت يعوز الناس كل شيء، وتحديدًا الأساسيات، كل ذلك يجعل تأمين الرفاهيات من البسكويت أو قطعة من الشوكولاتة أصعب في عمل هدى، تقول:” الأسعار كتير مرتفعة، بكيت الإندومي بـ ٢٥ شيكل، الرز بـ ٧٠ شيكل الكيلو الواحد، شو بدها تعمل الناس وهي ما عندها دخل؟ أحيانًا بستحي أحكي للناس السعر وأحيانًا بتكون البضاعة بالسوق بس ما بجيبها ولا بعرضها، عشان ما أكلِّف الناس بهيك أسعار”.

وتتابع: “غير الأسعار اللي كل يوم بحال، وبتعب أكتر لأني بوفِّر بمتجري الطلب من كافة أنحاء العالم لحتى يقدر الناس اللي خارج القطاع وبدهم يبعتوا لحبايبهم هدايا يكونوا مش محرومين من هالشي، وكلهم بنصدموا من الأسعار لأنها تعدَّت كونها خيالية بس شو بدنا نعمل مضطرين نكمل عشان خاطر اللي بنحبهم، والتعب عندي بتمثل بإني مضطرة أوفر وسائل دفع مختلفة كل بلد وشو الممكن فيها وشو المتوفر، كليك من الأردن وزين كاش، فودافون من مصر، وسترين يونيون من كل الأماكن، أو عبر وسطاء، بالإضافة إنو هاد الشي بأخر استلامي للمال، لأني بضلّ أجمع في برا القطاع لحد ما يصير مبلغ ممكن يتحمّل حجم الخصومات اللي بتعرّضلها بسبب العمولة العالية جدًا عند التحويل، أحيانًا بصير عندي عجز في السيولة، وأحيانًا بتغير سعر العمولة بين ما يحصل الطلب وبين ما توصلني فلوسه وبضطر أغطي الفرق مني، تخفيفًا على الناس بحول بعمولة ١٥٪؜ فيما أنا بسحب بعمولة ٢٨٪؜ غالبًا، وبرضه تكاليف التغليف ما بحسبها على الناس بتكبدها لحالي، والأكياس بغزة بهاي الفترة غالية برضه”.

هدى أيضًا تهدي عائلتها الصغيرة وعلى طريقتها تصنع مسرّاتهم الصغيرة، فهي كما تقول: “ما بهونلي إخواني الصغار يشوفوا الشغلة وما ياكلوا منها، لهيك كل شي بعرضه بالمتجر بجيب منه للبيت كمان، بحاول قد ما أقدر أكون مُعينَة لأهلي، الوالد خارج البلد برضو، مقيم في السعودية ونحن نُعتبر مغتربين عنه في غزة من أربع سنين، وعشان يحوّل لنا مصروف للبيت هنا بيروح نصه عمولات كمان والحمدلله ربنا يغنينا بحلاله عن حرامه”.

على الحروب أن تنتهي، وعلى الموت أن ينتهي، وعلى العمل المنزليّ ألّا يكون مثل موتٍ بين شوطين، على العمل المنزليّ أن يُمارس في المنزل لا الخيمة، على العمل المنزليّ أن يتوزّع بين الساكنين في المنازل على أساس المُشاركة لا المجالات المُجَندَرة، وعلى التشيز كيك ألا يتحول لقبلة، وعلى القبلة أن تكون حقيقية بين الأحبة، وعلى الهدية ألا تكون سلة مساعدة غذائية، وعلى المساعدات أن تُصرَف بكرامة للجميع. وليحدث ذلك كله على الاحتلال أن ينتهي.

لقد استغرقت “متى” ظرف الزمان هذا من أعمار نساء القطاع وراحتهنّ دهرًا، جعلتهنّ يغرَقنَ في مسلسلٍ دائم لكوارث وأوجاع حرب الإبادة ليس في نفوسهنّ فحسب بل على صعيدهنّ العائلي والاجتماعي أيضًا، فالبيت بكلّ أركانه وزواياه لم يعُد كما قبل الحرب، حتى وإن أُخمِدتْ نيران الحرب وتمّ وقف إطلاق النار في كل مراحله كما ينصّ اتفاق الهدنة، فإن النّساء لا هدنة تحول بينهنّ وبين الضَنَك الذي خلَّفتهُ الحرب، سيغرقن في الصباح بجهود الأعمال المنزلية دونما منازل، ثم حين يحُلّ الليل سيغرقنَ بمآسيهنّ وأوجاع قلوبهنّ، سيتَفقَدْنَ من تبقى لهنّ من العائلة، ومن الأمان، ومن الحياة ذاتها والتي اختلفت فيها التفاصيل تمامًا عما كانت عليه قبل حرب الإبادة، قد تصنع رنا قوالب تشيز كيك في الهدنة لزبائنها الناجين من الإبادة، وقد تُعد هدى بكجات هدايا، لعوائل وأحبة نجوا من الموت ولكن النجاة لا تشير إلا لمعنىً واحد: انتهاء حرب وبداية حروب الكفاح اليومية.

We´d love to meet you in person or online

Join us