يخيم الصمت والإنكار على العديد من القضايا في منطقتنا ففي حين نجح الحراك الأسود حول العالم بتسليط الضوء على العنصرية ضد السود والعنف المرتبط بها والذي يتجلى في الإفقار والتمييز في مختلف مجالات الحياة والتحريض على اللاجئين والترحيل القسري وعنف الشرطة الذي يصل إلى القتل، كما نجح الحراك النسوي الأسود في دول الشمال على وجه العموم والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص بالتنظير لفهم تداخلات الجندر والعرق والطبقة وتحليلها لتقديم قراءة لواقع النساء السوداوات في هذه الدول، وفي دول الجنوب تشكلت في أفريقيا ووسط وجنوب أمريكا حركات نسوية تخرط النساء والمجموعات المهمشة في النضال ضد الأبوية والعنصرية والاستعمار وترفع الصوت بوجه كراهية الشعوب الأصلانية وهيمنة خطاب المستعمر على رؤية الشعوب لذواتهم.
فنرى حضور قضايا العنصرية وما يرتبط بها من سرديات على مستوى العالم فيما تظل هذه السرديات غائبة في السياق المحلي حتى يخيل لنا أن العنصرية غير موجودة في بلداننا أو أن لا وجود لبشرة سوداء/ سمراء[1] في مجتمعاتنا، ما يعمق العنف عبر جعل وجود أصحاب البشرة السوداء/السمراء غير مرئيّ وقضاياهم غير مهمة
في هذا المقال نتأمل في بعض مظاهر العنصرية ضد صاحبات البشرة السوداء/ السمراء في سياق المجتمع الأردني في المساحات العامة والخاصة، والرسمية وغير الرسمية، من خلال مجموعة من المقابلات التي أجريناها مع مجموعة من النساء السوداوات/السمراوات، حيث نقرأ فيه شهاداتهن لمواقف عنصرية تعرضن لها وتحليلهن لها بهدف توثيقها والدعوة لتشكيل سرديات محلية مضادة لها ولبناء سرديات نسوية ترى تنوعات النساء وأثر انتمائهن لمجموعات مهمشة أخرى
المدارس والعنصرية :
تشكل المدارس التي عادة ما تكون نقطة التقاءنا الأول مع المجتمع، معارفنا الأولى عن أنفسنا وعن العالم من حولنا، وفي حين يُحمّلُها هذا نظرياً المسؤولية لتكوين مساحات آمنة لجميع الأطفال للنمو والتعلم، فإنها عادة ما تعكس بنى الاضطهاد الموجودة خارجها.
تتعرض الفتيات السوداوات/السمراوات لأشكال عدة من الممارسات العنصرية داخل المدارس، قد تصدر من زميلات كما قد تصدر من معلمات و”مربيات”، تظهر هذه الممارسات بأشكال عدة مثل تعليقات تساوي البشرة السوداء مع الوساخة ، رفض انضمام الفتيات إلى الألعاب ورفض لمشاركة المقاعد معهن، تمييز في المعاملة وتفادي إشراكهن في الأنشطة اللامنهجية، تحديداً تلك التي تتضمن تمثيلاً للمدرسة، بغضّ النظر عن مستواهنّ وتحصيلهنّ الأكاديمي، محاولة التحقير عبر إسناد مهام معينة لهنّ دوناً عن غيرهنّ مثل إلقاء القمامة وتنظيف ومسح الصفوف ووصم شعورهنّ واستغرابها والمطالبة بتسريحها بطرق لا تتناسب مع طبيعتها
تخبرنا هالة (اسم مستعار) عن تجربة تعرضت لها في المرحلة الثانوية عندما كانت تدرس في فرع التجميل فتقول ” شعري كيرلي بلفات صغيرة تشبه الزنبرك (النابض) في أثناء الفرصة أمسكت بي مجموعة من المعلمات وبدأن يسألنني عن شعري “ليش شعرك هيك” ثم سحبنني إلى المغسلة وأجبرنني على بلّ شعري أمام باقي الطالبات ليتأكدن من طبيعته ثم قمن بتمشيطه ، في حينها لم أعي أن ما تعرضت له كان شكلاً من أشكال العنصرية، اكتشفتُ لاحقاً أن ما فعلنَهُ لم يكن يندرج تحت قوانين المدرسة بل كان نابعاً من مشاعرهنّ وأفكارهنّ، عندما انتهين وتأكدن أن هذه هي طبيعة شعري رددن ” سبحان الله ، سبحان الله”
قد يخطر على بال القارئ أن هذه الممارسات هي ممارسات فردية، فلماذا نقوم بالإضاءة عليها والحديث عنها بوصفها عنصرية داخل المدارس؟
تقول أسماء (إسم مستعار)
” عندما كنت في رياض الأطفال تعرضتُ وأخي للتنمر من قبل الأطفال الأخرين، ذهبت أمي للإدارة لتحل المشكلة لكن الإدارة اتخذت موقفاً سلبياً بعدم التدخّل وتحجّجت بأن الأطفال الصغار لا يَعُون ما يقولون ولا يمكنهم استدعاء الأهالي أو اتخاذ إجراء لهذا السبب”
تكمن المشكلة الأساسية في المدارس بعدم اتخاذ أي إجراء لمحاربة العنصرية وجعل المدارس بيئةً مُرحّبة وآمنة لنمو الطفلات/الأطفال والمراهقات/ين، وافتراض أن العنصرية ما هي إلا ممارسات فردية، ما يفسح المجال لهذه “الممارسات الفردية” بالظهور بدلاً من الاعتراف بكونها قضية مجتمعية تحتاج عملاً هيكلياً لحلّها من خلال تأهيل المعلمين/ات والمربين/ات لرفض العنصرية والتعامل مع الطالبات على أسس العدل والمساواة وادراج التنوع ضمن القيم التي يكتسبها الطلبة في المدارس عبر مناهج شمولية وعبر فتح باب الحديث عن مثل هذه السلوكات ووضعها تحت المجهر بدلاً من تجاهلها وإنكار وجودها والإشارة إليها على استحياء في أفضل الأحوال.
“سمرة بس حلوة” عن العنصرية المبطنة:
الجمال مفهوم ثقافي نسبي ومتغير، إن فهمنا ورؤيتنا للجمال، أي لما هو حسن ولائق، ليس مجرداً من المكونات الثقافية والقيمية الأخرى التي نحملُها؛ سواءً كنا واعيات وواعين على هذه المكونات أو كانت غائبة عن فهمنا وتحليلنا، لذلك قد تعكس بعض التعليقات على أشكال النساء السمراوات/السوداوات وجمالهن شكلاً من أشكال العنصرية المبطنة أو مدحاً يحمل في جوهره ذماً
“سمرة بس حلوة” ، “سمرة بس ناعمة”، وعلى شاكلتها من التعليقات، فهذه ال “بس” تعكس منطقياً معنى الجملة، فأنتِ سمراء/سوداء والذي يعني للقائل صفاتٍ مثل القُبح وال”دفاشة” وليس الجمال والنعومة لكن -بس- أنتِ على عكس لون بشرتك جميلة وناعمة.
تمتد العنصرية المبطنة إلى سلوكات أخرى غير واعية كأن يوقفكِ أحد بالشارع لإخبارك أنه معجب بلونك، تقول مرح (إسم مستعار) عن هذه السلوكيات ” أشعر أن الأشخاص الذين يوقفونني ليعبروا لي عن إعجابهم بلوني هم أحد إثنين؛ إما أنهم عنصريون و يحاولون أن يثبتوا لأنفسهم عكس ذلك، أو يظنون أنفسهم المنقذين لي من عدم تقبلي المُفتَرَض للَوني.”
تأتي العنصرية بتوكيد الجمال والإعجاب بأشكال أخرى أيضاً؛ كأن أتحدث في فضاء ما عن العنصرية التي أتعرض لها فأتلقى مقابلها تعليقات تشيد بجمالي! لكن لماذا نناقش جمالي الآن بدلاً من مناقشة العنصرية؟ أشعر أن هذا بذاته سلوك عنصري فهو يعجز عن فهم أو لا يريد فهم القضية التي أشير لها، يظل عالقاً يفكر في فكرة واحدة موجودة برأسه حتى لو لم أتحدث عنها”
فضلاً عن هذه التعليقات، تخبرنا مرح عن مواقف أخرى حملت عنصرية ما بين المبطنة والمباشرة فهي لا توجه الكلام لها وعنها بل تتحدث عن أشخاص آخرين وتذمُّهم للون بشرتهم فتقول ” كان هناك مجموعة واتساب تجمعني مع مجموعة من الصديقات، في أحد الأيام يبدو أن إحداهن نسيت وجودي فأرسلت فيديو لفتاة سوداء/سمراء وبدأن بالسخرية منها ليس لشيء فقط للونها، تتالت هذه المواقف كثيراً فكنت شاهدة على سخرية من أشخاص سود/سمر فقط للونهن/م، أحياناً كنت أعبر عن استيائي جراء هذه العنصرية لكن أحياناً أخرى كنت أشعر أن هؤلاء الأشخاص كُثُر وأنا أقف وحدي، وسأصبح مضطرة للدفاع عن نفسي وتبرير استيائي أمام مجموعة كبيرة من الأشخاص فأفضّل الانسحاب، أذكر موقفاً آخر مع مجموعة من الزميلات والزملاء في الجامعة؛ بدءاً بأن زميلتنا قالت ” تخيلوا يريد أخي الزواج بسمراء” لتبدأ بعدها المجموعة بالتعبير عن رفضها للارتباط بشخص أسود / أسمر، مع تجاهل تامّ لوجودي، ولم يلحَظ أحد انزعاجي إلا عندما انسحبت”
وتضيف هالة بأن العنصرية الموجودة في الأردن هي غالباً عنصرية مبطنة وغير مرئية
العنصرية وخيارات الارتباط والزواج
تلعب العنصرية دوراً مركزياً في خيارات الزواج والارتباط لاسيما للنساء السوداوات/ السمراوات، تعتقد مرح أن تأثير العنصرية على خيارات الزواج هو أساسي ومركزي في تجربة السود/ السمر عموماً في الأردن، فتخبرنا أنها خلال حياتها اختبرت علاقة واحدة كانت مع شاب أبيض البشرة، لكنها قررت تركه بسبب هذا الاختلاف بينهما فتقول ” في تلك المرحلة من حياتي بدأت أعي كيف يؤثر كوني امرأة سوداء/سمراء البشرة على خياراتي في الارتباط، كانت قريبتي على وشك الزواج برجل أبيض البشرة، وسط رفض من العائلة واستذكار لتجارب نساء سوداوات/ سمراوات، تزوجن برجال بيض، وكيف تم نبذهنّ من عائلة الزوج، إحدى قريباتي حُرِمَت من أبنائها، حينها أدركتُ أنه لا يمكنني أن أستمر في هذه العلاقة وفضَّلتُ الانفصال كي لا أمُرَّ بهذه الصعوبات، لم يتقبل الشاب انفصالي عنه، استمر بملاحقتي لسنوات، في إحدى المرات كلمتني أخته وهي غاضبة وقالت لي ” مين مفكرة حالك إنتِ يا سودا لحتى تتركي أخوي مش بكفي انه متطلع فيكي!” حينها آمنت أن خياري بتركه كان صائباً تماماً وسأبقي عليه، لن أتزوج من رجل من غير لون بشرتي، لم أشعر يوماً أنني غير جديرة بالحب، لكن يزعجني أن خياراتي ضئيلة ومحدودة”
أما أسماء فأخبرَتنا أنها مرَّت بتجربة مشابهة؛ كانت تربطها علاقة برجل أبيض البشرة لثلاث سنوات، انفصل هو عنها مخبراً إياها بأن عائلته لن ترضى زواجه بامرأة سمراء /سوداء، وتضيف: “بالنسبة لي لن أرتبط أبداً برجل أبيض، هذه العنصرية راسخة لا أمل لدي أن تتغير”
تضيف مرح أن العنصرية ليست موجودة فقط من الأشخاص البيض ضد السود/السمر، فهي موجودة حتى بين السمر/السود أنفسهم بحسب الاختلافات /الفروق في درجة السمار/السواد، هذا الاختلاف في الدرجات يحدث عادةً نتيجة زواج مختلط بين رجال سود/ سمر ونساء بيضاوات وتضيف “عادةً لا يكون خيار الزواج برجل أسود/أسمر الخيار الأول للمرأة البيضاء، فتوافق على هذا الزواج عند نفاذ فرصها للزواج برجل آخر، في كثير من الأحيان يؤثر هذا على ثقة الأبناء في أنفسهم فهم يُربَّونَ على يد أهل يرونهم قبيحين، رجلٌ أراد “تحسين نسله ” بزواجه بمرأة بيضاء ومرأة غير راضية عن لون زوجها وأبناءها” ينعكس هذا على علاقتهم بأقرانهم في العائلة لاسيما الفتيات، تخبرنا مرح أنها تلقت أغلب التعليقات المؤذية والساخرة من قريبات لها وتقارن مع عائلة صديقة لعائلتها لم ينخرط أفرادها بزواج مختلط “هذه العائلة لا تشبه عائلتنا فهي عائلة مبهجة نساؤها واثقات من أنفسهن ، أحب الذهاب لأعراسهن، فهن يرتدين جميع الألوان ويرقصن دون خجل أو محاولات اختباء أو خوف من التعييب، كأن لا وجود لهذا التعييب بينهنّ”
تقطع العنصرية الطريق أمام خيارات مركزية في الحياة كالزواج والارتباط فهل لها تأثير على خيارات أخرى كالتعليم والعمل؟
العنصرية وقطع الطرق
تحاول العنصرية قطع طرق النساء السودوات/ السمراوات بالمعنى الحرفي والمعنى المجازي فتتجسد على شكل مضايقات بالشارع العام تخبرنا أسماء عن تجربتها بالشارع فتقول ” توقفت عنصرية الناس ضدي في الشارع لأنني توقفت عن المشي فيه، لا أشعر بالراحة في أي مكان، الأماكن التي تربيتُ داخلها ترفضني، هناك حيٌّ واحد في كلّ عمّان يمكنني المشي فيه وأنا مرتاحة نسبياً”.
وتصف لنا كيف أثرت العنصرية في الشارع والمواصلات على رحلة التعليم فتقول “فترة الجامعة كانت أسوأ فترة في حياتي، أنا درست في السلط والرحلة إلى الجامعة كانت مرهقة ومستنزفة في المواصلات كان ينظر إليّ على أنني كائن غريب والتعليق على هذه الغرابة واجب جماعي، كنت أسأل نفسي هل يُعقَل أنهم لم يروا شخصاً أسمر من قبل؟
لم يكن مستوى العنصرية ثابتاً طوال سنواتي الجامعية في أول سنة كنت قد ملَّستُ شعري، لم يكن شكلي مستنكَراً بنفس الدرجة التي كان فيها في السنوات الثلاث التي تلتها حين استعدتُ شعري “الكيرلي”، تعرضتُ لعنصريّة بشعة، كانوا يوقفونني في الشارع تتحسس النساء شعري ويشده الأطفال، فكرتُ بالانتقال من الجامعة لكنني لم أنتقل، قلتُ لنفسي سأجد هذه العنصرية في كل مكان آخر”
تخبرنا مرح عن تجربة مشابهة لها بالجامعة فتقول “في أول سنة لي في الجامعة تعرضتُ لمضايقاتٍ متكررة من مجموعة من الشبان على مدخل الجامعة، كدتُ أغيّرُ جامعتي والتخصص الذي أحبّه بسببها، لكن أبي وهو دكتور جامعي -لا يدرّس في نفس جامعتي لكنّه مطّلع على مدوّنة السلوك وأنظمة الجامعات -قترح أن نشتكي لعمادة الكلية، استجابت العمادة للشكوى وحصل الطلاب على إنذار وتوقفوا عن مضايقتي”
أما عن قطع الطريق في العمل تخبرنا هالة عن تجربة تخلّيها عن إدارة أحد أفرع الشركة التي تعمل بها “انا ترقيت منذ فترة قريبة في عملي، أصبحت مديرة أفرع، أول كلمة قيلت في الاجتماع “مين هالة هاي” كان هناك استهانة واستصغار لم أستطع تحديد إذا كان سببها العمر أو اللون ربما كلاهما معاً، تجاوزتُ هذه التعليقات، كنتُ سعيدةً بالترقية، لكن سرعان ما غيّرت العنصرية التي تلقيتُها في أحد الفرعين فرحتي، ولم أعُد أحتمل، خيّرتُ الإدارة بين التخلي عن إدارة الفرع أو الاستقالة من كامل العمل وسمحوا لي بالتنازل عن إدارة ذلك الفرع”
تخبرنا أسماء أيضاً عن تجربة أختها في تغيير مكان عملها بسبب العنصرية فتقول ” أخذت أختي سكناً يبعد عن مكان عملها خمسة عشر دقيقة مشياً على الأقدام وكانت مستعدة لمشيها، لكن سرعان ما تغير ذلك، لم تعد قادرةً على المشي بالشارع بسبب التعليقات العنصرية التي تلقتها، وطلبت نقلها إلى فرع أخر يبعد دقيقتين عن سكنها”
أما مرح فتُحدّثُنا عن تجربةٍ أخرى متعلقة بالعمل، فتقول: “سبق أن قدّمتُ طلباً للعمل في مقهى (كوفي هاوس)، أثناء المقابلة قال لها صاحب المقهى ” لا تواخذيني بندور على بنت حسنة المظهر”، الملفت في إعلانات التوظيف للوظائف الخدماتية، البحث عن نساء “حسنات المظهر” فهي تجمع بين تسليع النساء من ناحية والعنصرية والتمييز من ناحية أخرى
وعلى ذكر التسليع يوجد ظاهرة أخرى تتعرض لها النساء السوداوات /السمراوات وهي تشييئهنّ
العنصرية والتحرش و التشييء [2]
تتعرض النساء السمراوات/ السوداوات لأنواع مختلفة من التحرش الذي يتضمن عادةً إشارةً إلى تصوّرات هؤلاء الرجال للسلوكات الجامحة والشبقة لهنّ في الجنس إذ تقول لنا أسماء ” هذه هي طريقتهم ب”معاكستنا” وعندما نرفض ولا نستجيب يستغربون ذلك” وعن المواقف التي تعرضتُ لها في هذا السياق تقول ” كنت لا أزال صغيرة ولم أتعلم بعد كيف أردّ وأتصرف، طلبت سيارة أجرة (تكسي)، بعد أن وصل ركبت، سألني من أين أنتِ، أجبته أنني فلسطينية لم تعجبه الإجابة، كما لا تُعجب غيره عادةً، فالمتوقع أن أكون سودانية أو إثيوبية أو من أي بلد أخر لكن ليس فلسطينية أو أردنية بالتأكيد، ليس هذا الموضوع، لا أدري كيف قفز ليخبرني بأننا نحن السودوات/السمراوات “حاميات في التخت” صُدمت، بعدها بفترة طلبت سيارة أجرة (تكسي)، جاءني نفس الرجل، لم أنسى شكله أبداً لكن هذه المرة لم أركب”
هالة أيضاً أخبرتنا بأنها تعرضت لتجارب شبيهة لما تعرضت له أسماء، إذ قرر أحد زملائها أن يباغتها بحديثٍ مازح دون أي سياق عن نظرته للنساء السوداوات/السمراوات وجموحهنّ واعتقاده بأن القدرات الجنسية للأشخاص السود/السمر أكبر وأشد من غيرهم.
هذه ليست الطريقة الوحيدة لتشييء النساء السوداوات/ السمراوات فتخبرنا مرح أنها تلقت تعليقات على شكل جسمها إذ أخبرها أحد الأشخاص مرةً بأنها ليست سوداء/سمراء بما يكفي لأن جسدها ليس ممتلئاً ولا يشبه أجساد السوداوات/ السمراوات، أما الموقف الذي صدمها تعرضت له أيضاً في سيارة أجرة (تكسي) إذ قرر السائق أن يخبرها ملاحظاته على جسدها قائلاً “حبتك قليلة مش مثل البنات السمر، بالعادة السمر أَجْهَم من هيك أما إنتِ ما عندك صدر” من شدة الصدمة سألت مرح “ايش” فأعاد على مسامعها بصوت أعلى “ما عندك صدر ، ما عندك صدر” حينها طلبت منه إنزالها
تكمل مرح وتحدثنا عن الاستباحة إذ تقول ” غالباً ينظر إلى النساء السوداوات/ السمراوات على أنهنّ مُتاحات وسهلات الوصول مع حضور لفكرة الحرمان العاطفي فأنتِ كامرأة سمراء/ سوداء لا أحد ينظر إليك فهذا يعني بالنسبة لهم أنك ستستجيبين لأي مبادرة من أي رجل وهذا يعني أيضاً أنك حين ترفضين فرفضك ليس مقبولاً وقد تتعرضين للملاحقة، إذ كيف تجرؤين أيتها السوداء/السمراء على رفضي”
كل ما سبق يدفعنا للتساؤل، كيف بدأت كل هذه العنصرية وما الذي يغذيها؟
تُرجّح مرح وجود مرحلتين من الهيمنة الثقافية خلقت العنصرية ضد السود في منطقتنا تتمثل المرحلة الأولى بمرحلة توسع الدولة الإسلامية وحكم عرب شبه الجزيرة لمناطق واسعة تحوي إثنيات متنوعة والحاجة لخلق تفوق لعرب شبه الجزيرة على هذه الإثنيات ما أدى إلى تهميشها جميعاً، إلا أنه في حالة السود/السمر كان هناك أولاً فرق جليّ وواضح بالشكل، ما جعلهم مركزاً لإظهار هذا التفوق فضلاً عن تاريخ العبودية الطويل
بدأ تاريخ العبودية الذي تحدثت عنه مرح في المنطقة العربية منذ القرن السابع واستمر حوالي 1300 عام، لا توجد سجلات لعدد الأفارقة الذين تم بيعهم خلال هذا الوقت إلى شمال إفريقيا وجنوب غرب أسيا؛ ولكن وفقًا لبعض التقديرات فقد يتراوح العدد بين 10-17 مليون أفريقي وكانت الدول الناطقة بالعربية من أواخر الدول التي حظرت العبودية قانونياً[3]، إلا أن غياب الحديث عن تاريخ العبودية هذا يساهم في إنكار وتجاهل عنصرية النظر إليها كممارسات ثقافية فردية معزولة عن سياقها
أما المرحلة الثانية التي تخبرنا عنها مرح فهي مرحلة الاستعمار الأبيض الذي أراد جعل كل ما هو غير العرق الأبيض دون العرق الأبيض، وأصبح معيار التفوق والقبول هو الاقتراب من صورة المستعمر الأبيض نفسه
أما عن استمرار هذه العنصرية فيرجح البعض أسباباً اقتصادية إذ ما يزال الأشخاص السود/ السمر هم الأفقر بالغالب وهو ما يرجع بجزء كبير منه إلى زمن العبودية ومن يملك الأراضي والعقارات ويورثها فضلاً عن التمييز في الوصول إلى التعليم والوظائف اللائقة، فالفقر يولِّدُ فقراً بدوره، وهنا تهيمن الطبقة الاقتصادية ثقافياً أيضاً،إذ يكون الشكل الحسن والمقبول هو الذي يقارب هذه الطبقة.
وأخيراً تعزز الدولة الحديثة في محاولتها لبناء هوية جامعة للمواطنين تهميش الأقليات وتحاول مسح أي اختلافات بين المواطنين ما يؤدي بدوره إلى تعزيز الفجوات بين شرائح المجتمع وتعزيز العنصرية
في الختام الكراهية تولد الفخر
تخبرنا هالة ” قررت أن أفهم كوني محطّاً للأنظار دائماً على أنني شخص مميز، هكذا قاومت العنصرية والكراهية، بأن أحب نفسي وأقبلها كما هي” رغم كون هذه المحاولة فردية إلا أنها تقاوم الكراهية عبر تغيير معنى الممارسات العنصرية وخلق معانٍ جديدة لها، تلائم سرديتها عن نفسها، نؤمن في هذه السلسلة بقوة السرديات، الجماعي منها والفردي وقدرتها على المقاومة والمواجهة، ونأمل أن يسهم هذا المقال في وضع حجر لبناء وتوثيق سردية النساء السوداوات/ السمراوات في الأردن والمنطقة وأن يفتح الباب للحديث عن تجارب قلَّ الحديث عنها وتوثيقها.
[1] نستخدم في هذا المقال مصطلحي سوداء وسمراء معاً بالاستناد إلى الكلمات التي استخدمها الأشخاص لوصف أنفسهن ولون بشرتهن، مع تبنينا لنظرة محايدة لكلا المصطلحين
[2] ملاحظة نستخدم مصطلح تشييء هنا كمقاربة لمصطلح ” Fetishization ” باللغة الإنجليزية والذي يأتي في هذا السياق بمعنى جعل شخص ما موضوعًا للرغبة الجنسية بناءً على بعض جوانب هويته والذي يرتبط عادة بعلاقات القوة