تكاد لا توجد امرأة واحدة لم تتلقى عبارة ” ليش هيك مبينة تعبانة ووجهك أصفر ، حطي اشي عوجهك ” إذا لم تتلقاه من العائلة والأقارب والصديقات والاصدقاء والزميلات والزملاء ومارة الطريق ، فهي حتماً تلقتها من الإعلانات وخبيرات الأناقة والجمال على التلفاز والإنترنت .والمجلات الورقية والالكترونية وفي الصيدليات أو صالونات التجميل، نورد هنا بعض العناوين التي وجدنها ببحث بسيط على جوجل
“8 حيل سريعة التطبيق لإخفاء تعب محيط العينين – العربية”
“طرق بسيطة لإخفاء علامات الإرهاق عن الوجه –الوكيل الإخباري”
“للأمهات: نصائح لإخفاء علامات الإرهاق والتعب – moms360”
“طرق اخفاء علامات التعب على الوجه – مجلة هي”
“6 نصائح تساعد على إخفاء علامات التعب وقلة النوم – جمالك”
“9 حيل لـ إخفاء علامات التعب على وجهك – مجلة العروس”
” مقاومة التعب المتواصل.. كيف تعيدين النضارة لبشرتك؟ – الجزيرة”
عشرات المواقع الأخرى التي تخبرنا كيف نحتال على علامات التعب الارهاق وقلة النوم ونخفيها ونبدو بمظهر مشرق ونظر، الجدير بالذكر أن جميع هذه المقالات تحمل صور لنساء إذا لم يكن العنوان في صياغته يخاطب النساء، هذا دفعنا لبدء الحوار مع مجموعة من النساء حول إخفاء .الإرهاق والتعب ؛ فبدأنا بمراجعة بعض المواقف التي حاولنا فيها إخفاء علامات التعب والإرهاق أو تم فيها إنكار تعبنا وارهاقنا
ملاحظة جميع الأسماء الواردة في هذا المقال هي أسماء مستعارة*
تقول ليلى: ” أشعر أن أول لحظات يتم استنكار التعب فيها هي وقت الدورة الشهرية (الحيض) ويبدأ من البيت ويكبر معنا ويمتد لجميع المساحات الأخرى من أماكن عمل ودراسة، لا يوجد تقبل لفكرة أنك متعبة ومرهقة وليس لديك المقدرة لعمل شيء يتطلب مجهود بدني أو فكري أحياناً، هناك استنكار لأسباب تعبنا نفسها مثلاً إذ كنتِ عائدة من عملك بعد يوم عمل طويل أو تعملين في المنزل طيلة النهار وعبرتي عن تعبك هناك سؤال استنكاري “شو كاينة تكسري حجارة!” فنعود لنقطة أن الجهد نفسه غير مقدر وغير مرئي وبالتالي تعبك غير طبيعي وغير مبرر ”
تتفق جلنار في تجربتها مع ليلى وتضيف ” هناك أوقات معينة يكون تعبنا فيها مستنكر بصورة متزايدة، مثل المناسبات الاجتماعية واللقاءات العائلية وكل ما يمثل مسؤوليات اجتماعية؛ مثلا التملص من استقبال زيارة عائلية في وقت متأخر من الليل بعد يوم عمل طويل هو أمر مرفوض كلياً وغير قابل للنقاش، ويصبح تعبي نفسه مستنكر، لا تنطبق هذه القواعد بنفس الصرامة على أخي حتى لو كانت طبيعة عملي شاقة أكثر، هو من الطبيعي أن يعود من المنزل ليرتاح مع تعاطف عام مع تعبه وإرهاقه وفخر بعمله وجهده، أما أنا فتعبي وعملي كلاهما غير حقيقيان ولا يمثلان شيء أمام مسؤولياتي الإجتماعية ”
لا يقتصر استنكار التعب على الاستخفاف بالمجهود بل يمتد لتحديد الشكل المقبول للتعب فتقول علا “والدتي لا تصدق أنني متعبة إلا إذا كنت طريحة الفراش ويسيطر علي المرض إذا قمت بأي مجهود اضطراري يخالف ذلك فيعني أنني أدعي التعب للتهرب من المشاركة في الأعباء المنزلية والاجتماعية، فتحاول الضغط علي للقيام بها عبر اللوم والابتزاز العاطفي ومحاولة اشعاري في الذنب، في السابق كنت أستجيب وأكابر على التعب لكنني قررت وضع حد لذلك والاستجابة لاحتياجي بالراحة ”
أما ريم فحتى المرض الواضح لا يشفع لها للتغيب عن المناسبات الاجتماعية إذ تقول “كانت رجلي مصابة وتزامن ذلك مع مناسبة اجتماعية؛ قررت أمي احضار مشدات واجباري على ارتداءها والذهاب، لا أعتقد بأن الأمر يتعلق بتصديق التعب وحتى الألم من عدمه بل يتعلق بأن ما نشعر به ليس مهم، ليس مهم أن أكون بخير المهم أن أبدو بحالة جيدة، أن أبدو جذابة ومرغوبة ومشروع عروس، هذا يتعارض مع أن أكون متعبة ”
تنطلق رولى في ذاكرها إلى ذات فكرة الجاذبية والزواج فتقول “من الطرائف التي أتذكرها في أيام الجامعة كنت معجبة بزميل لي، فكنت أضع مساحيق التجميل –المكياج- وتحديداً الكحل لإبعاد التركيز عن الهالات السوداء، لفترة سافر هذه الزميل، فقررت أن أستريح قليلاً من هذا العبء وتوقفت عن وضعها، كل الأشخاص الذين قابلوني في تلك الفترة سألوني عن إذا ما كنت مريضة، حالة استهجان “مالك اشي يا رولى ؟” لم أجرؤ أن أخبرهم أنني فقط توقفت عن وضع مساحيق التجميل لفترة، أجبت نعم مريضة؛ الآن لا أبالي أجيب ببساطة “ماليش اشي بس مش حاطة مكياج اليوم ” ، أمي هي التي تحمل هوس شكلي ويزداد هوسها كلما تقدمتُ بالعمر وقلت بنظرها فرصي في الزواج، نحن في المنطقة بشرتنا شاحبة، لدينا هالات سوداء، هذه طبيعة أشكالنا، بالنسبة لأمي هذا الشحوب يجب إخفاءه سواءً عبر إصلاح أسبابه العضوية ودفعي لإجراء فحص مستويات الحديد بالدم واخذ إبر حديد داعمة، أو عبر تغطيتها بمساحيق التجميل ، والهدف أن أكون امرأة مرغوبة “
أما وجد والتي تتقاطع تجربتها كثيراً مع رولى فتقول “أنا وجهي بطبيعته مائل إلى الصفار فهناك جزء أساسي من رحلة اليوم هدفه اخفاء هذا الاصفرار ، أحياناً يغافلني الوقت فتسقط هذه الفقرة ويبدو وجهي المصفر على طبيعته وتبدأ معه التعليقات والتي تمتد لكل شيء يتحفظ من حولي عليه تجاه شكلي وجسمي؛ فنبدأ من شحوب وجهي ونصل إلى أن جسمي نحيل للغاية ولا يمكنه أن يحمل طفل وأن يبقيه بصحة جيدة “
تفسر لنا ريما هذه المواقف بقولها “أجساد النساء مستباحة ، لأنها محصورة بالدور الانجابي، ما يجعلها مشاع، يمكن لأي أحد أن يعطي رأيه فيها لتقويمها لتقوم بدورها بإعادة الانتاج الاجتماعي؛ هذا يحدث على أكثر من مستوى فأن تكوني متعبة يهدد قدرتك الانجابية من جهة، لكنه أيضاً يهدد قدرتك على ممارسة الجنس والذي هو بدوره شكل من أشكال إعادة الإنتاج حتى لو يكن الغرض منه الإنجاب فهو شكل من أشكال الترفيه عن العمال (يمكننا مراجعة الخطابات المحرضة على والمطبعة مع الاغتصاب الزوجي )، أيضاً التعبير عن الإرهاق والتعب يعبر بشكل واضح عن وجود خلل في النظام الرأسمالي فهو يعني أننا نعمل فوق طاقتنا وقدرتنا سواءً كان هذا العمل مأجور أم غير مأجور؛ ولأن التعب يفضح الرأسمالية فهي لا تريده أن يكون موجود ، تريد منا إخفاءه “
تعقب علا وتضيف على تفسير ريما ” مهم ايضاً التفكير بالأدوات التي يتم استخدامها وكيف يتم تحميل اللوم للأفراد أو جعل المشكلة تبدو شخصية وفردية مثل الحديث عن نقص الفيتامينات والنحافة والتاريخ الطبي للأفراد …الخ لكن ليس المنظومة ، كل شيء قد يكون السبب لكن ليس المنظومة، وهناك أيضا أشكال من التشجيع السلبي وأننا كنساء نحمل قدرات وطاقة خفية ونستطيع فعل كل شيء وتحدي التعب يذكرني هذا بمنشور رأيته على موقع linkedin لمرأة تعمل مديرة موارد بشرية، تتحدث عن رفضها لأحد الأشخاص لأنه لا يملك عقلية نمو ولم يقم بأخذ دورة معينة في تخصصه لانشغاله وتقارن بانها اخذت دورة في تخصصها وهي ما تزال في مرحلة النفاس ولديها طفلة رضيعة ومسؤوليات البيت والعمل، هناك مشكلتين واضحتين في هذا الخطاب، الأولى في جعل “عقلية النمو” قيمة أخلاقية فضلى تحرم الأفراد حقهم في الراحة والثانية أن يصبح هذا النموذج معيار أحقيتك في العمل”
إلى جانب تحميل اللوم للأفراد والتشجيع السلبي للنساء تلعب الرأسمالية على تناقضاتنا وتستخدم الأدوات الذكورية للنيل منا فتقول رولى ” نحن نعيش في عالم مصمم للرجال ، بيئات العمل مصممة للرجال ، عدد ساعات وأيام العمل مصممة على أساس جسد الرجل وليس على أساس أجسادنا ، لكننا للأسف نطبع مع هذه البيئات، فلا نفكر أن بإمكان هذه البيئات أن تصمم لتلائم أجسادنا بل أن على أجسادنا أن تتأقلم لتلائمها ، فعلى النساء أن يذهبن إلى العمل وأن يخفين آلام الحيض لإثبات أن بإمكانهن فعل ما يمكن للرجال فعله ، هناك من يسوق هذا على أنه “نسوي” ويحاول أن يصور الإشارة إلى الاختلافات بين أجسادنا وحاجاتنا على أنها اعتراف بعدم أحقيتنا بالعمل والانخراط بالفضاء العام، لكنها على العكس مطالبة ببيئات عمل وفضاءات عامة تلائم أجسادنا لأن لدينا الحق في العمل دون استنزاف، في الجهة الأخرى ليس الرجل وحده المعيار، هناك ايضاً نماذج من النساء علينا أن نشبههن شكلاً أن نشبه نظارة وجوههن وابتسامتها المرتاحة والمريحة وجمالها “
تعقب ريما ” أحضرت رولى لنا لاعب جديد إلى الطاولة وهو معايير الجمال ومطابقة معايير الجمال ، يرتبط هذا إلى حد ما بالظهور بمظهر نظر لكنه يتجاوزه ايضاً، أرشح في هذا السياق كتاب the beauty myth”” ، لنبدأ من بداية القصة كما يؤطرها عندما خَلّصت الموجة النسوية الثانية النساء في دول الشمال من كثير من القيود التي كانت مفروضة عليهن خلقت حاجة لإعادة فرض السيطرة على النساء وولدت هناك أسطورة معايير الجمال، من ناحية أخرى معايير الجمال مربحة اقتصادياً بل هناك سوق كامل قائم عليها فهي دافع للاستهلاك ، استهلاك المال والوقت ايضاً، هناك شيء أخر ملفت في معايير الجمال، مثلاً في مسابقات الجمال التي تبني جزء كبير من مفهوم الجمال لدينا ،لا يقتصر الجمال على شكلك الخارجي فقط بل ايضاً على شكل عقلك ، فكلما كانت إجاباتك أسخف تكونين أجمل؛ هذا يعكس مركزية السيطرة على النساء في أسطورة معايير الجمال ”
إذا أردنا أن نلخص سريعاً فنحن أمام منظومة اقتصادية تعمل على استنزافنا واستنزاف طاقاتنا في الفضاء العام والخاص، وهي في الوقت نفسه لا تعترف بهذا الاستغلال لأنها من جهة تريدنا أن نستمر بأدوار الإنتاج وإعادة الإنتاج لخدمتها ومن جهة تريدنا سوق لاستهلاك المزيد من منتجاتها، لا ينحصر هذا بالتعب وحده فحتى آلامنا تدخل في دوامات مشابهة
تعود بنا علا لفكرة أننا نطبع مع ما حولنا لنتحدث أكثر عن التطبيع مع الألم فتروي لنا تجربتها ” قبل فترة أصابني ألم اعتبرته أنا “خفيف” كنت محتارة هل أزور الطبيب أم أنتظر قليلاً ، قررت في النهاية أن أزوره ، حين فحصني قال لي أن لدي التهاب شديد وأنني لا بد أمر بألم شديد ، ما أزعجني ليس الالتهاب وأنه وصل درجة متقدمة دون أن أراجع الطبيب، بل مكابرتي على نفسي التي جعلتني أرى الألم الذي كنت فيه أنه ألم خفيف ”
تروي لنا ريما تجربة مشابهة لولدتها فتقول “كسرت أمي ركبتها ، بقيت أربع أيام تتحرك باعتبارها رضه ، عندما زارت الطبيب قال على الأغلب رضة لكن سنجري صورة من باب الاحتياط، تبين بعد الصورة وجود كسر بالغ في الركبة فعبر الطبيب عن أنه تفاجئ لوجود الكسر ولم يتوقعه، هناك عدة أمور تستحق الوقوف عندها، فأمي تحملت الألم على مدار أربع أيام واعتبرته عادياً ويمكن تحمله، الطبيب لم يتوقع وجود كسر سمح لتنبؤاته أن يكون لها وزن بالتشخيص مع أن الإجراء البديهي للتشخيص هو صورة الاشعة ، هل كان سيتنبأ برض لرجل يتألم ؟ هل كانت ستفاجئه نتائج الصورة ؟ ما حدث معها ليس استثنائياً فأخطاء تشخيص النساء قضية صحية هامة حول العالم الذي لا يهتم بمؤسساته الطبية الذكورية لصحة النساء ”
تضيف مريم تساؤلاً حول التعبير عن الألم فتقول ” هناك شيء آخر حول مسألة الالم والتعبير عن الألم هو منع النساء من التعبير عن الألم وجنسنته، جنسنة تأوه النساء ألماً يظهر ذلك في عدة سياقات كعنف الولادة مثلاً ، أو في كل مرة علينا البحث عن طبيبة بدلاً من طبيب ، فلدي سؤال ما مصدر هذه الفكرة برأيكن ؟”
تعتقد علا أن الجنسنة لا تقتصر على الألم ” كلشي بنعمله كنساء هو قابل للجنسنة ، كل شيء يمكن تحويره لخدمة الخيال الجنسي للرجل المغيار فأعتقد أن وجودنا كنساء بحد ذاته مجنسن “
أما ريما فتذهب في تحليلها لقراءة العالم الإباحي كانعكاس للواقع الحقيقي “في الواقع الاباحي هناك تركيز كبير على العنف والألم والبكاء في أثناء ممارسة الجنس والفكرة تتركز في كون هذا الألم نابع من أحقية للرجل؛ فكرة أنك تتألمين لأجلي، لأجل اسعادي، فهناك شعور بالاستحقاق تجاه ألم النساء هذا يعكس هوس الرجل في أن يكون هو مصدر الألم في الواقع الحقيقي؛ ويصبح بذلك كل ألم ليس هو مصدره ألم غير حقيقي، أما من ناحية أخرى فالجنس الإيلاجي يلعب دور تدجيني في ثقافة أغلب المجتمعات والألم يساهم في تشكيل هذا الدور”
إذن فنحن أمام تداخلات لفهم الألم وارتباطه بالمنظومة الطبية وخذلانها للنساء من جهة وبالجنس ووزنه الاجتماعي من جهة أخرى، أنهينا كمجموعة نقاشنا هنا نضعه في هذا المقال ليفتح الباب لمزيد من النقاشات والمقاربات عن التعب والألم ومعايير الجمال ، أبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ايماناً بثورية النظرية التي تسمح لنا بكسر السرديات الذكورية المهيمنة على تفاصيل حياتنا ، وبناء سرديات جديدة أكثر عدالة.