Home 5 الإنتاج المعرفي 5 النساء والمنظمات النسائية: صراع مع الآثار الاقتصادية للحرب في سوريا

read in English

النساء والمنظمات النسائية: صراع مع الآثار الاقتصادية للحرب في سوريا

Apr 16, 2025

ديما محمد

تنويه: تم إنتاج هذا المقال في الفترة بين شهري أيلول/سبتمبر – وتشرين الثاني/ نوفمبر من عام ألفين وأربعة وعشرين ميلادي- 2024م بهدف الإضاءة على جوانب من معاناة الشعب السوري بسياقاته المتعددة التي كادت تصبح منسية لا سيما في ضوء تشعُّبات هذه السياقات التي لم تكن تبدو مفهومة وواضحة لمن هن/م خارجها، لأننا مؤمنات بضرورة أن يكون تضامن الشعوب قائماً على الفهم أولاً سعينا أن يقدم هذا المقال صورة عامة ومعلومات واضحة قدر الإمكان، إلا أن تسارع الأحداث بعد الانتهاء من إعداده حتى سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر جعل العديد من الحقائق الواردة في هذا المقال والشهادات المتضمنة ماضياً، ننشره اليوم لأننا نرى فيه تأريخاً وتوثيقاً لجزءٍ ممّا عاشَهُ الشعب السوريُّ قبيل سقوط نظام الأسد.

بدأ الحراك الشعبي في سوريا عام 2011 بحثا عن الحرية والكرامة ورغبة في تغيير وإصلاح في مفاصل دولة ينخرها الفساد. سرعان ما تحول هذا الحراك إلى صراع مسلح طويل الأمد متعدد الأطراف جرف في طريقه كل ما هو ثابت ومستقر في حياة السوريين والسوريات. فانقلبت حياة الملايين منهم/ن رأسا على عقب متسببة بإحدى أكبر موجات النزوح واللجوء في التاريخ المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية، وتقدر تقارير الأمم المتحدة عدد السوريين والسوريات النازحين داخل سوريا بنحو 6.9 مليون نازح ونازحة بينما يقدر عدد اللاجئين واللاجئات في دول الجوار وأوربا بنحو 5.5 ملايين لاجئ خلال العقد الماضي.[1]ستتغير الأرقام بعد ذلك ليصبح عدد اللاجئين واللاجئات السوريين نحو 6.5 مليون لاجئة ولاجئ سوري متوزعين ومتوزّعات على 130 دولة، عدا النزوح الداخلي.[2][3]

أما عند ذكر الأوضاع الاقتصادية في بلد تنهشه الصراعات والحرب، فإن الحديث عن تدمير البنية التحتية لم يعد كافياً، بل توجب رصد وملاحظة انهيار شامل لكل قطاعات الاقتصاد. فعلى مدى أكثر من عقد، تآكل الاقتصاد السوري بفعل العقوبات الدولية، التضخم الهائل، انهيار العملة، وتدمير القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعة. لم تعد الحياة اليومية في سوريا تعني فقط محاولة البقاء على قيد الحياة مع العنف المستمر، بل تحولت إلى معركة دائمة لتأمين لقمة العيش في ظل ارتفاع الأسعار الهائل، وانعدام الأمن الغذائي، وتفكك شبكات الدعم الاجتماعي.

وفي ظل تلك الظروف التي يمكن وصفها بالمأساوية كانت النساء والفتيات من أكثر الفئات التي تأثرت في بلد مزقته الحرب، فقد ترك الصراع بصماته العميقة على كل جوانب حياتهن، من الأمان الشخصي إلى القدرة على تأمين لقمة العيش، مرورًا بمواجهة الانتهاكات المستمرة والاستغلال بكل أشكاله.

حيث دائما ما تكون الأعباء مضاعفة عليهن بسبب تحملهن لمسؤوليات عدة، كأعمال الرعاية المنزلية غير المأجورة فقط، إضافةً إلى تعاملهنّ مع نقص الموارد الأساسيّة كالغذاء والماء واضطرارهنّ إلى العمل في وظائف وأعمال بظروف غير لائقة، فيرزحن تحت وطأة الشعور بالخوف رغم ضرورة التحلي بالشجاعة، الصمود مع الحاجة الملحة للانهيار.

في سوريا، وجدت النساء أنفسهن في قلب هذه المعاناة. تفكُّكُ النظام الاقتصاديّ تسبّبَ في فقدان العديد من الأسر لمصادر رزقها، وتلاشت الوظائف التي كانت تُعتبر في السابق مصدر أمانٍ مالي. أما النساء اللواتي كنّ يعتمدن على الرجال كمصدر دعمٍ اقتصاديّ، سواءً كأزواج أو آباء، واجهنَ فجأة وضعًا جديدًا حيث فقدن هذا الدعم بسبب الموت أو الهجرة أو الاعتقال. وكنتيجةٍ لذلك، تحوّلن إلى المُعيلات الرئيسيّات لأسرهنّ، في وقتٍ كانت الفرص الاقتصادية تقلّ فيه والتحديات تزداد.

  1. الأوضاع الاقتصادية العامة للنساء والفتيات في سوريا

رانيا هي امرأة سورية في منتصف الأربعينات من العمر، تحدثت إلى وهي متعبة وحزينة وبقلب مليء بالأمل بأن أيامها ستكون أحن وألطف مما عاشته خلال السنوات السابقة. كانت تعمل كمعلمة في إحدى المدارس السورية في مدينة حلب قبل بدء الحرب، وتتعاون هي وزوجها على تأمين حياةٍ كريمةٍ لها ولعائلتها.

لكنّ الحرب كانت مُصرّةً على نسف كل دوائر الأمان المحيطة بها وتحميلها أعباءً كبيرةً ستُنهكها وتُفقدها طاقَتَها. في بداية سنوات الحرب ذهب ابنها إلى الخدمة العسكرية، ولكنّه لم يعد، أَسَرَه نظام الأسد، ثم قتله بعد أشهر من اعتقاله، ودُفِن في المدافن الجماعية في منطقة قرب دمشق تدعى نجها، وكل ما حصلت عليه رانيا هو رقم القبر الجماعي المدفون فيه ابنها وشهادة وفاته وساعة يده. لتأتي الحرب وتلقي بظلالها بقصفٍ على المنطقة التي يسكنونها ويُصاب زوجها إصابةً خَطيرةً أدت إلى بتر ساقيه. وهكذا وجدت رانيا نفسها وحيدة، مسؤولة عن إعالة عائلتها وإبقائهم على قيد الحياة فإضافة إلى مسؤولياتها غير المنتهية داخل المنزل والاعتناء بزوجها العاجز، عملت في العديد من الأعمال في محاولة منها لتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة وأحد أكثر تجاربها قساوة كما وصفتها هو عملها في معمل للأحذية، حيث تعرضت للتحرش والاستغلال من قبل مشرف العمال وطُردَت؛ لأنها قدمت شكوى ضده رافضة الاستجابة لمضايقاته والسكوت عنها. (صمتت وترددت كثيرا قبل رواية هذه الحادثة، ولكنها وافقت بشرط ألّا نذكر اسمها الحقيقي في أثناء سرد قصتها)

  • الفقر والبطالة:

الفقر والبطالة هما وجهان لعملة واحدة، فبعد الحرب أصبحا جزءاً لا يتجزأ من حياة السوريين والسوريات. جاء الفقر مع الحرب والموت والتشرد، وبدأ يضرب الأسر السورية، إذ أشار تقرير للبنك الدولي في أيار من عام 2024 أن أكثر من ربع السكان في سوريا يعيشون في فقر مدقع، في حين يرزح أكثر من 69% منهم تحت خط الفقر، وهذا يشمل بشكل أكبر الأسر التي تعيلها نساء.[4]

ارتفعت نسب البطالة بين السوريين والسوريات وخاصة النساء بشكل غير مسبوق منذ بداية الصراع. ففرص العمل أصبحت أساسا قليلة وشبه معدومة، وإذا كانت موجودة فغالباً ما تكون في بيئات عملٍ سيّئة تكاد تنعدم فيها الحماية الاجتماعيّة. ومنذ بدء الصراع فقدت الكثير من النساء وظائفهنّ نتيجة تدمير الشركات والمؤسسات أو توقف الأنشطة الاقتصادية. وفي ظل هذه الظروف، لم تعد مشكلة البطالة مجرد نقص في الدخل، أو في فرص العمل، بل أصبحت مسألة بقاء، حيث تجد النساء أنفسهن في دوامة البحث عن عمل ورفض أرباب العمل تشغيلهن أما إذا كانت المرأة محظوظة، فقد تجد عملاً غير آمن وبأجرٍ غير عادل مع احتمال تعرضها للاستغلال الجنسي وخاصةً في ظلّ حاجتها إلى هذا العمل من أجل تأمين الاحتياجات الأساسية لأسرتها المنهارة أساساً تحت وطأة الحرب.

هناك المزيد من التعقيدات في حياة النساء داخل سوريا مثل صعوبة التنقل والحركة في ظل تدهور الأوضاع الأمنية، مما يقيِّد خيارات النساء للعمل أو البحث عن فرص جديدة. عدم الأمان المتفشّي في الطرقات وأماكن العمل يجعل النساء عرضةً للخطر في كل خطوةٍ تخطينها خارج المنزل. هذا الواقع القاسي يعمِّق الشعور بالعُزلة، ويزيد هشاشة النساء اللواتي يبحثن عن أي وسيلةٍ للنجاة.

انخفاض الأجور والتضخم:

من منظور نسوي، يجب النظر إلى هذا التفاوت في الأجور كجزء من نظام رأسمالي أبوي يضيف طبقة جديدة للتمييز الذي تتعرض له النساء، فانخفاض الأجور والتضخم المستمر يزيد تأثير الأعباء وبشكل خاص على النساء، حيث يُضطررن للعمل في بيئات عمل قاسية ومهينة في بعض الأحيان، دون أن يحصُلن على الأجر المستحق لعملهنّ، فأصبح الأجر لا يكفي حتى لشراء الاحتياجات اليومية الأساسية. ووصل التضخم إلى مستويات قياسية جعلت الحياة اليومية أكثر قسوةً، إذ تجد النساء المُعيلات لأسرهنّ أنفسهنّ عاجزاتٍ عن تلبية متطلبات أسرهن الأساسية، على الرغم من العمل لساعاتٍ طويلة.النساء السوريات لم يخسرن فقط الأمان الاقتصادي، بل يخُضنَ معركةً يوميةً ضد هيمنة نظامٍ اقتصاديٍ لا يعترف بحقوقهنّ أو بمساهماتهنّ الحيويّة في إعادة بناء المجتمع.

وبحسب مصرف سوريا المركزي، فإن معدّل التضخم وصل في سوريا إلى 122% في نيسان 2024 على أساس سنوي،[5] أما الحد الأدنى للأجور، فأصبح 280 ألف ليرة سورية شهريا بعد آخر مرسوم لزيادة الرواتب في شباط 2024، أي ما يعادل 22 دولاراً بحسب سعر الصرف.[6] وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى أن سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة السورية كان قبل آذار 2011: (كل دولار ما يعادل 50 ليرة سورية) لتنخفض الليرة انخفاضاً حاداً خلال الأعوام الثلاثة عشر القادمة، ويكسر الدولار الواحد حاجز الـ 14000 ليرة سورية.[7]

التضخم لم يؤثر فقط على قيمة الأجور فحسب، بل عمّق الفجوة بين ما تتقاضاه النساء والرجال في مجتمعٍ كانت فيه الفروقات في الأجور بين الجنسين موجودةً حتى قبل الحرب، وأصبح التمييز في الأجور أكثر وضوحاً وقسوةً مع تزايُد الفقر.

أما الوظائف التي تشغلها النساء، فتكون غالباً أقل استقراراً وأماناً من تلك التي يشغلها الرجال، أو قد تكون مؤقتة أو موسمية أو بدوام جزئي، مما يُعرّض النساء للمخاطر الاقتصادية، مثل التوقف المفاجئ عن العمل وفقدان مصدر الدخل. تتسم هذه الوظائف في العديد من الحالات بغياب الضمانات الاجتماعيّة والصحيّة، وقد تكون ظروف العمل غير مريحة أو حتى خطرة. وتجد النساء أنفسهنّ غالباً مُضطرّاتٍ إلى قبول أجور أقلّ من الرجال، حتى عند أداء المهام نفسها. يعكس هذا التفاوت في الأجور بُنيةً اقتصاديةً واجتماعيةً قائمةً على الفجوة بين الجنسين.

  1. الأثر الاجتماعيّ للأوضاع الاقتصاديّة الصعبة التي تعيشها النساء داخل المجتمعات السوريّة:

تخلق الأزمات الاقتصاديّة في المجتمعات العديد من المشكلات، التي لا تنعكس فقط على الواقع الاقتصادي والمعيشي، بل تتعداها وتتدخل في الحياة الاجتماعية واليومية. تتحمل النساء العبء الأكبر من هذه التأثيرات، فتواجههن العديد من المشكلات والضغوط المتزايدة؛ مما يظهر جليا من خلال:

تقلص فرص التعليم وتزويج الفتيات:

مع تفشي الفقر داخل المجتمع السوري نلاحظ تقلُّص فرص التعليم للفتيات على نحو خاص في العديد من المناطق السورية، والأرياف على وجه الخصوص، فالمنظومة التعليمية متصدعة والتعليم مكلف ومرهق وأول ما تفكر به الأسر السورية هو مصادرة الفتيات حقهنّ في الحصول على التعليم حتى في مراحله المبكرة وهي المرحلة الابتدائيّة، وإذا كانت الفتاة محظوظة، فإنها قد تُتمّ الابتدائيّة وجزءاً من المرحلة الإعداديّة لتجلس بعدها في المنزل، وتعطي دورها وحقها لإخوتها الذكور، إذ تكون لدى العائلة القدرة على تغطية تكاليف دراسة أفراد أقلّ في حال وجود عدد من الأخوة في عمر الدراسة في الوقت نفسه في ظل الظروف المعيشيّة الصعبة، وقد يُزجّ بالفتاة في دائرة الزواج المبكر الذي يُعتبر حلّاً لتخفيف الأعباء الماليّة عن الأسرة وبالمقابل، فهو يعزّز التهميش الاجتماعي ومصادرة أحد الأبواب التي تمكّن الفتيات أحياناً من حماية أنفسهن من العنف المطبق في المنزل وخارجه، بينما يزيد الفقر والضغوط المعيشية من حدة العنف المنزلي، إذ تصبح النساء والفتيات الضحية الأولى للتوترات والعنف الذي يمارسه أفراد الأسرة أو الشركاء، ويترسخ العنف ويتكرر في ظل غياب الدعم المجتمعي والاقتصادي للنساء، مما يجعلهن أكثر ضعفاً وعرضةً للاستغلال والانتهاك.[8][9]

تراجع جودة الخدمات الصحية والحقوق الإنجابيّة:

في ظل الحرب والانهيار الاقتصادي تراجعت الخدمات الصحية بشكل عام، وأصبحت خدمات الرعاية الصحية والإنجابية على نحو خاص بعيدة المنال للعديد من النساء، خاصة في المناطق الريفية أو المحاصرة. جعل نقص الموارد الطبية وصعوبة الوصول إلى المرافق الصحية الحمل والولادة مخاطرة حقيقية، إذ تعاني النساء من قلة الرعاية في أثناء الحمل، وارتفاع معدلات الوفيات بين الأمهات وتفاقم الأمراض المرتبطة بالصحة الإنجابية.[10] [11]

  • الهجرة والنزوح:

لم يكن النزوح والهجرة في سوريا مجرد انتقال جغرافي من مكان إلى آخر، بل كانا بمثابة اقتلاع النساء من مجتمعاتهن ودوائر الأمان الخاصة بهن، فقد خلقت حالة النزوح والهجرة حالةً من التفكك الاجتماعيّ والظروف غير المستقرّة سواءً اقتصادياً أو حتى اجتماعياً. إذ فقدت النساء العائلة والشبكات الاجتماعية الآمنة من أقارب وأصدقاء أو حتى جيران كنّ يعتمدن عليهنّ للتخفيف من أعباء الحياة اليوميّة وتقديم الدعم والرعاية للأطفال والمسنين والمسنّات والمساعدة على تخطي الأزمات الماليّة، كما كانت تلك الشبكات تمنحُهنّ فضاءً من التّفاعل الإنسانيّ الذي يدعمهنّ اجتماعياً، ولكن بعد الهجرة والنزوح تفكّكت تلك الشبكات، وحُرمَت النساء منها لتُضطررن في المجتمعات الجديدة سواءً في المخيمات أو البلدان المضيفة أو حتى في مدن أو قرى جديدة لمحاولة تشكيل شبكات جديدة قد لا تكون آمنة أو حتى داعمة بالشكل المناسب، فيواجِهنَ واقعاً مليئاً بالتحديات، وأعباءً اقتصاديةً واجتماعيةً إضافيّة، فتُتركنَ وحيدات للتعامل مع الظروف المُفاجئة والقاسية دون مساعدةٍ أو دعم، بل على العكس يستمرّ المجتمع في فرض العادات والتقاليد البالية نفسها التي تُقيّد حريتهنّ وأدوارهنّ. فيجدنَ أنفُسهنّ محاصراتٍ بتوقعاتٍ اجتماعيةٍ تقليدية.

على سبيل المثال وليس الحصر أثّر التهجير إلى حد بعيد على حياة العاملات في مجال الزراعة، إذ فقدت العاملات في هذا المجال مصدر دخلهنّ الأساسيّ المرتبط بالأرض التي كُنّ يعملن فيها، وفقدن بذلك الاستقرار المالي والتواصل الاجتماعي ضمن مجتمعاتهنّ الريفية.

بعد النزوح، لم تَعُد غالبية النساء قادرات على الوصول إلى أراضيهنّ أو العمل في قطاع الزراعة، مما دفعهن إلى البحث عن فرص عمل غير مستقرة وبأجور منخفضة في قطاعاتٍ جديدة. هذا التحوُّل أدى إلى تدهور أوضاعهنّ الاقتصاديّة، خاصةً في ظل ظروف العمل الصعبة وغير الآمنة التي تتعرض لها النساء النازحات، مما يزيد هشاشتهن الاقتصادية، ويحد من قدرتهن على بناء حياة مستقرة في البيئات الجديدة.

  1. دور الجمعيات النسائية والنسوية داخل سوريا وفي دول الجوار:

في ظل الأوضاع الصعبة التي تعيشها النساء والفتيات في سوريا نتيجة الحرب والأزمة الاقتصادية والاجتماعية المُتفاقمة، لعبت المنظمات النسائيّة والنسويّة دوراً مهماً في تقديم الدعم لهنّ -رغم محدودية ما يمكنها تقديمه أمام هذا الواقع-. لم يقتصر هذا الدعم على تقديم المساعدة الإنسانيّة فحسب، بل قدمت برامج تهدف إلى اكتساب النساء لأدوات تعينهنّ على مواجهة متاعب الحياة اليوميّة والعُنف الواقع عليهنّ، عن طريق العديد من المشاريع والبرامج كبرامج الدعم النفسي والاجتماعي لدعم النساء اللواتي يعانين صدمات نفسية نتيجة العنف المطبق عليهن أو حتى نتيجة لحالة الحرب وما تعرضن له من نزوح وخسارة أحباء، حيث يمنح مثل هذه البرامج النساء الأدوات اللازمة للتعامل مع الضغط النفسي

تقدم المنظمات أيضاً برامج الدعم الاقتصادي حيث توفر فرص تدريباتٍ مهنيّة للنساء، وتساعدهنّ على اكتساب المهارات التي تُمكنهنّ من دخول سوق العمل أو بدء مشاريع صغيرة، وهذا النوع من البرامج يساند النساء المستهدفات في مواجهة الفقر والاستغلال، ولكن لا يزال الطريق طويلاً أمام النساء ليصلن إلى مرحلة التحرر الكامل من الفقر والاستغلال المُتجذّر منذ عقود طويلة في المجتمع. إضافةً إلى برامج التمكين السياسي التي تسعى من خلالها المنظمات إلى دعم النساء ليصبحن جزءاً من عملية صنع القرار في مجتمعاتهن المحلية[12].

برامج التمكين السياسيّ تتضمن العمل مع النساء في المجتمعات المحلية لرفع المستوى المعرفي والثقافي والسياسي لديهن وتوفير المساحة لهن للتعرف على مجريات السياسة الحالية وفهم تطوراتها، وتحديد مساحات تدخلهنّ وفقاً لأولوياتهنّ في السياقات المختلفة، كما تتضمن تدريب النساء على المهارات القيادية، وتمكينهن من المشاركة الفاعلة في العمل المجتمعي والسياسي. وبرغم الصعوبات والتحديات المختلفة سواءً اجتماعية أو حتى أمنية لا تزال مناطق سيطرة المعارضة السورية في شمال غرب سوريا هي الأماكن الأكثر ازدهاراً وتشجيعاً لتخصيص مساحات نسائيّة خاصة وتسهيل عمل المنظمات النسائيّة والنسويّة – إلى حدٍ ما- في تنفيذ برامج رفع الوعي السياسي بهدف تجهيز النساء في تلك المجتمعات المحليّة المُصغّرة ليكُنّ شريكاتٍ لا تابعات. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ استجابة المجتمع لمثل هذه البرامج ليست في أحسن أحوالها، فقد تتعرض هذه المنظمات للعديد من التحديات والمقاومة من قبل المجتمع المحلي وسلطات الأمر الواقع الحاكمة هناك.

عدل وتمكين:

في حديثي مع هبة عز الدين، مديرة منظمة “عدل وتمكين” التي تعمل من أجل مستقبل أفضل للسوريات كلهنّ، تحدثت عن دور المنظمة في دعم النساء في سوريا من خلال تدخلات متعددة المستويات، حيث يرتبط كل مستوى بنظرية تغيير محددة. تقول هبة “النظرية الأولى تشير إلى أنه لا يمكن تعزيز دور النساء في الاقتصاد إذا لم تُلبَّ احتياجاتهن الأساسية. لذلك، نبدأ في المستوى الأول بالشق الإغاثي، وهو تلبية احتياجات النساء الأساسية مثل تَقدِيم سَلَلِ الكرامَة، وهي سلال تحتوي على احتياجات النساء الشخصية. عادةً، لا تشتري النساء هذه الاحتياجات لأنفسهن، حتى لو كُنَّ يعملن، إذ يُرتِّبن أولويات دخلهن لأَطفالهنَّ وعائلاتهنّ، ويتجاهلن أنفُسهنّ.”

أما النظرية الثانية، تتمحور حول أهمية دعم النساء في أدوار تساهم في تحقيق المساواة الجندرية بعِيداً عن الوظائف التقليدية. وتقول هبة “لكي نُحدِث التغيير، يجب أن نبدأ بالتدريج في تشجيع النساء على العمل في مهن غير نمطية. ولكن، في الوقت نفسه، ندعم المهن النمطية مثل الخياطة والكروشيه؛ لأن بعض النساء يُحببن هذه المهن ويُبدعنَ فيها. وبهذا المستوى، لا نقدم فقط خيارات للمهن النمطيّة، بل نُعطي النساء فرصةً لتعلُّم مهارات سلاسل التوريد، مثل كيفية إضافة قيمة إلى منتجاتهنّ أو تسويقها. بذلك، لا تتعلم النساء مهنةً فحسب، بل يَكتَسبْنَ مهاراتٍ في التوريد والتسويق ودراسة السوق والتغليف.”

النظرية الثالثة التي تعتمد عليها المنظمة تقول “عمل النساء في مهن غير نمطية يمكن أن يساهم في تغيير التقسيم الجندري غير العادل” في هذا السياق، تدرب المنظمة النساء على مشاريع مهنية غير تقليدية مثل تركيب أجهزة الطاقة الشَمسِيَّة، وصيانة الأجهزة الإلكترونِيَّة، وقيادة السيارات. لكن، كما تشير هبة، هذا هو التحدي الأكبر؛ بسبب مقاومة المجتمعات للتغيير، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتغيير الأدوار الجندرية.

وتختم هبة: “تقوم منظمة عدل وتمكين بتوفير منح صغيرة للنساء في نهاية كل مشروع ليتمكنّ من البدء بمشاريع صغيرة يعتمدن عليها. ومن خلال ملاحظاتنا لنتائج التدريبات، وجدنا أن بعض النساء اللاتي دربتهن المنظمة أصبحن مدربات بدورهن. وبهذا الشكل، تمكنّ من الحصول على وظائف أو إنشاء مشاريع مدرة للدخل، سواء على نحو فردي أو بالشراكة مع نساء أخريات.”

  1. أثر العقوبات الاقتصادية على النساء والمنظمات النسائية:

العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا منذ سنوات الحرب تركت آثارًا عميقة على الاقتصاد الكلي، مما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي العام إلى حد بعيد. هذا التدهور انعكس على نحو مباشر على حياة النساء السوريات، اللاتي وجدن أنفسهن في مواجهة تحديات متزايدة، حيث أثرت العقوبات على نحو مباشر على مستوى المعيشة والتضخم ونقص الموارد الأساسية. وقد تجلى ذلك من خلال:

ارتفاع تكلفة المعيشة: إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائيّة والوقود والسلع الأساسيّة بشكل كبير مع القيود المفروضة على التجارة والاقتصاد، إضافة إلى التضخُّم وتآكل القوة الشرائية لليرة السورية، مما جعل تأمين الاحتياجات اليومية أمرًا مرهقًا للعائلات وتحديداً من يقوم بدور الإعالة، وقد تزايدت أعداد النساء اللواتي يقمن بهذا الدور كما أسلفت، وقد زاد ذلك من الأعباء الاقتصادية التي تثقل النساء اللواتي يعملن في مهن منخفضة الأجور، أو يعانين البطالة.

نقص الموارد الأساسية: مثل الأدوية والمستلزمات الصحية، مما أثر في جميع فئات المجتمع، وكان له ثقله على الأطفال، كما أن النساء عانين في الحصول على الرعاية الصحيّة اللّازمة، أو في التعامل مع الاحتياجات الصحيّة اليوميّة المتعلّقة بالصحة الإنجابيّة. خاصةً في المناطق التي تعاني انعدام الخدمات الصحيّة.

العمل المجتمعي: العقوبات لم تؤثر فقط على الحياة اليوميّة للنّساء، بل أثَّرت أيضاً على المبادرات التي تسعى إلى التخفيف من وطأة ما يعانينه، واجهت العديد من المبادرات والمنظمات التي تعمل مع النساء من خلال التدريب والتعليم والدعم الاقتصادي صعوبات في الوصول إلى التمويل والموارد الضرورية. وجعلت العقوبات المفروضة على التحويلات المالية والقيود على استيراد المواد الأساسية من الصعب تنفيذ البرامج التي تهدف إلى دعم النساء ومساعدتهن على بناء حياة اقتصادية مستقلة. مما حرم العديد من النساء من فرص التعلم والعمل، وبالتالي أعاق تقدمهن الاقتصادي والاجتماعي.

وأكدت ذلك مديرة عدل وتمكين عندما سألناها عن تأثير العقوبات على مشاريع منظمتهم، حيث أوضحت أن المنظمات النسائيّة والنسويّة تتأثّر إلى حد بعيد بسبب آليات “فرط الامتثال”، وهي الآليات التي تجعل الدول تفرض شروطاً معقدةً على المانحين. نتيجة لذلك، يفرض المانحون هذه الشروط على المنظمات، مما يجعل من الصعب على تلك المنظمات تلبية كل هذه المتطلبات. وأشارت المديرة إلى أن المنظمات النسائية والنسوية لم تتلقَ الدعم الكافي خلال السنوات الماضية، سواءً من الناحية الماديّة أو التقنيّة، مما يزيد صعوبة تلبية شروط المانحين. في بعض الأحيان، حتى عندما تحصل المنظّمات على تمويل من مصادر أوروبيّة أو أمريكيّة، يصبح ذلك عبئاً كبيراً عليها، حيث يُشغل الفريق بالكامل بالإجراءات الإداريّة لدرجة أن الطاقة المخصّصة لمتابعة المشاريع وخطوات تنفيذها تُستنفد في متابعة تلك الإجراءات.

أما فيما يتعلق بالتحويلات البنكية، فقد ذكرت أن أي تحويلٍ ماليّ يتعلق بسوريا يسبب مشاكل كبيرةً للجهة المُسْتَلِمَة. أحيانًا تُعَاد الحوالات مراتٍ عديدة، وفي بعض الحالات تفشل المنظمات في استلام التحويلات إذا كان المشروع مخصصاً لسوريا، مما يزيد تعقيد الأمور، ويعيق سير العمل.

على الرغم من تضرر جميع أفراد وفئات المجتمع، لا يمكن إنكار أن النساء في سوريا هنَّ من أكثر الفئات تضرُّراً من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي خلَّفَتها سنوات الحرب الطويلة بدءاً من تفشي الفقر حتى النخاع داخل الأسر السورية وصولاً إلى تأثر السوريين والسوريات من فرض العقوبات على البلاد. وعلى صعيد أشمل يبدو أن الاقتصاد السوري مُرهقٌ ومُتعَبٌ من آثار الحرب والعقوبات بصورةٍ لا يمكن تجاهُلُها حتى بات من الصعب تحقيق أي تقدُّمٍ حقيقيّ دون معالجة جذور الأزمات الاقتصاديّة والسياسيّة. لذلك يُعد دعم النساء وضمان حصولهنّ على حقوقهنّ بشكلٍ عادل جزءاً لا يتجزّأ من إعادة بناء المجتمع السوريّ والنهوض بالاقتصاد على المدى الطويل.

[1]  عاما على انطلاق الثورة.. تعرف على خريطة الهجرة والنزوح السوري، الجزيرة ، 14 آذار 2022

[2] اللاجئون بالأرقام بحسب جنسياتهم وكبرى الدول المستضيفة ، CNN بالعربية ، 02 تشرين الثاني 2023

[3] النازح : هو الشخص الذي اضطر ان يترك منزله لكنه لم يعبر الحدود بل بقي في بلده وتحت حماية حكومته، وإذا كانت هذه الحكومة هي السبب في نزوحه فسيبقى في الخطر بشكل دائم لذلك تعتبر هذه الفئة هي اضعف الفئات في العالم.

أما اللاجئ: فهو شخص اضطر لمغادرة وطنه نتيجة لتعرضه للعنف او للاستغلال أو للاضطهاد ، او لخطر يهدد حياته.

[4] سوريا: تفاقم الانكماش في معدلات النمو وتدهور رفاه الأسر السورية، مجموعة البنك الدولي، 24 أيار 2024

[5] مصرف سورية المركزي :الاقتصاد في حالةركود تضخمي ” .. معدل التضخم الحالي 122%، Sama channel، (فيديو)، 2024

[6] سوريا 2024.. أوليغارشية مرفهة وفقر مدقع يضرب 92% من السكان، الجزيرة، 30 آذار 2024

[7] Hourly black market exchange rates and gold prices in Syria, Karam Shaar

[8] ظاهرةالزواج المبكّرتسجّل نسباً قياسية في بعض المناطق السورية، سوريون من اجل الحقيقة والعدالة، 17 أيلول 2020

[9] المرأة السورية: معاناة وفقر وبطالة.. الزواج المبكر يهدد ثلث السوريات.. والعنف والاعتداءات الجسدية حاضر دائم في مختلف مناطق السيطرة، المرصد السوري لحقوق الانسان، 7 تموز 2020

[10] هي من تدفع أغلى ثمن: تأثير الصراع على خدمات الصحة الجنسية والإنجابية في شمال غرب سوريا، PHR، 2023

[11] المرأة السورية: معاناة وفقر وبطالة.. الزواج المبكر يهدد ثلث السوريات.. والعنف والاعتداءات الجسدية حاضر دائم في مختلف مناطق السيطرة

[12] اغلب برامج التمكين السياسي التي تنفذها منظمات المجتمع المدني يتم تنفيذها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري نظرا لصعوبة التنفيذ في مناطق النظام اضافة للدواعي الأمنية

We´d love to meet you in person or online

Join us