- لسلامتها أُخفيَت هوية كاتبة هذا التقرير
شهدت الدولة السودانية صراعات عديدةً في تاريخها الحديث، والتي دفعت المرأة السودانية فيها ثمنًا غالياً، وخسرت ما خسرت حتى أصبح جسدها ميدانًا لخوض الحروب. في هذا التقرير نلخّص مراحل استخدام العنف الجنسي وخوض الحروب على أجساد النساء السودانيّات.
يركّز التقرير على الانتهاكات الجنسيّة التي حدثت للنساء، في فترة الحروبات والصراعات الأهلية التي شهدتها الدولة السودانية في مراحل وحقب مختلفة، بدءًا من الحروبات التي خاضتها الحكومات التي تعاقبت على السودان في إقليم جبال النوبة ثمانينات القرن الماضي، وحرب إقليم دارفور في العام 2003؛ وحتى الثورات السلمية التي شهدتها الدولة السودانيّة خلال حكم البشير في 2013 و2016 و2018 حتى فضِّ اعتصام القيادة العامة في حزيران/ يونيو 2019 ختامًا بحرب نيسان/ أبريل 2023 والتي ما زالت مستمرةً -حتى تاريخ كتابة هذا التقرير -.
تعتبر حرب أبريل 2023، امتدادًا لانتهاكات سابقة قامت بها القوات العسكرية وشبه العسكرية منذ اندلاع النزاعات الأهليّة في أرجاء السودان المختلفة. فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة في السودان، تعرَّضت النساء إلى عمليات اغتصابٍ واسعة امتدّت في أرجاء ولاية الخرطوم والجزيرة وإقليم دارفور بولاياته الخمس وأجزاء من كردفان وبعض من سنار.
ننوه إلى أن الأرقام والإحصائيات الواردة في هذا التقرير، هي أقلّ بكثير من العدد الحقيقيّ للضحايا من النساء اللاتي تعرَّضنَ لجرائم عنفٍ جنسيّ، خلال فترات الحروب، بسبب شُحِّ المعلومات وضعف الاتصالات، وتعقيدات المجتمعات السودانية في التعامل مع هذه الجرائم وحساسيّتها؛ فهناك تكتمٌ على هذه الجرائم من الأهل والإدارات الأهليَة في مناطق النّزاعات، بالإضافة إلى رفض الضحايا التعايش مع هذه الجرائم ورفض الحديث عنها أو الاعتراف بحدوثها، خوفًا من وصمة المجتمع أحيانًا ومن مطاردة الجناة أحيانًا أخرى، ما يحول دون وصول بلاغات عن هذه الجرائم إلى الأجهزة الرسميّة وبالتالي توثيقها، وحتى حين تصل فإن الأجهزة الرسميّة ترفض مشاركة الإحصائيات الحقيقيّة مع المواطنين/ات، بل تنفي حدوث هذه الجرائم في بعض الأحيان؛ ما يضمنُ للجُناة الإفلات من العقوبة فيستمرون ويتمادَون في ارتكاب العنف الجنسيّ بطرقٍ مُمَنهَجة كوسيلةٍ للترهيب و كسر شوكة خُصمائهم السياسيين والعسكريين.
أثناء كتابة هذا التقرير كانت الكاتبة كما نساء سودانيات أخريات تنزح بين قرى شمال دارفور المختلفة بسبب توسع رقعة الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وأحياناً تبحث ليوم كامل عن مبلغ نقدي لشراء الاحتياجات الحياتيّة الأساسيّة ولكنها لا تجد بسبب انقطاع النقد وصعوبة إجراء التحويلات البنكيّة، كُتب هذا التقرير رغم المعارك الوجوديّة اليوميّة ورغم التحديات والمخاطر التي أحاطت كتابته والتي تشمل على سبيل المثال لا الحصر، انقطاع شبكة الاتصالات والكهرباء والحاجة المستمرة لحذف التقرير عن أجهزة الكاتبة الإلكترونيّة كي لا تُعرِّض حياتَها للخطر في حال وُجدَ التقرير على هاتفها، وتعرُّض جهاز حاسوبها المحمول للسرقة، واضطرارها لإرسال هاتفها لمسافات بعيدة لشحن بطاريته، ودفنه تحت الأرض خوفاً من نهب المُقتنيات من قبل المليشيات المساندة للدعم السريع، وعن صعوبة جمع الشهادات؛ سافرت الكاتبة إلى فاشر حاضرة شمال دارفور في ذروة العمليات العسكريّة لمقابلة امرأة تعرَّضَت للاغتصاب في معسكر زمزم للنازحين، وبعد بقائها أسبوعاً تحت القصف عادت دون إجراء المقابلة بسبب انقطاع الاتصالات. واستعانت على جمع الشهادات الواردة في هذا التقرير بناشطاتٍ ونشطاء آخرين، كما أنّ جميع المقابلات الشخصية التي أجرَتها والشهادات التي جمعتها تم أُخفيَت هوية صاحباتها وأصحابها لضمان سلامتهن/م
لم تكن كتابة هذا التقرير مهمةً سهلةً أو عاديّة إذ استغرقت كتابته ثلاثة أشهر، ننشره اليوم ونحن نأتمن الجمهور على نضال كاتبته وجُهدها المُنصبّ لإنجازه، ونضع المسؤولية على الجميع لنشره ونقل قصص وأصوات نساء حملت أجسادهنّ ذاكرة الحروب المتتالية.
تنويه: جميع الجرائم الواردة في هذا التقرير نتج عنها أو قد ينتج عنها تبعات مثل حدوث الحمل أو الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًا، أو الصدمات النفسيّة التي تعانيها للضحية، والتي قد تصل إلى الانتحار أحيانًا سواء للضحية أو حتى صدمات لأفراد من أسرتها -خاصة حين تحدث هذه الجرائم أمام أفراد من العائلة- وعدم ذكر هذه التبعات في هذا التقرير أو التوسع في إيضاحها لا يعني أنها لم تحدث
خلفيّة عن الحروب الأهلية السودانية
في الحقب التي حدثت فيها الحروب في مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، من ثمانينات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية، كانت هناك عمليات انتهاكات جنسية مُمَنهَجة، قامت بها قوات الجيش السوداني وقوات الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان[1] في ولاية جنوب كردفان، خصوصًا بمناطق التامبيرا والتطعة والطُم طُم حتى شريط تلودي وكلوقي ورشاد على حدود دولة جنوب السودان الحالية، بينما قامت الميليشيات العربية المُساندة من الجيش بارتكاب جرائم إبادة جماعيّة وتطهير عرقي في قُرى دارفور الكُبرى حتى ظهر ذلك جليًا في ملامح الأطفال الذين وُلدوا نتاج تلك الاغتصابات في مُعسكرات النُّزوح المختلفة.
قاتل الجيش السوداني طوال الحرب الأهلية الأولى وفي بداية الحرب الأهليّة الثانية دون مساندة أي ميليشيا مُسلَّحة حتى انقلاب الإنقاذ عام 1989، فظهرت قوات الدفاع الشعبيّ والشرطة الشعبيّة بعد قيام العقيد ابراهيم شمس الدين بالتجنيد والاستنفار، من جميع أنحاء السودان واستقطابهم بحجة الجهاد في سبيل الله[2] في هذه الفترة أُغلقَت المدارس بجبال النوبة لنحو 11 عاماً، وتحولت المدارس إلى غابات وجُنّدَ الأطفال وأُلحقوا بالجيش السوداني، لمواجهة أهلهم وأقاربهم المنخرطين في صفوف الحركة الشعبية، فانتقم الطرفان من المواطنين عبر اغتصاب النساء، وبحسب الشهادات تم تجنيد لواء من قرية واحدة بجنوب كردفان، بعد إجبار كبار القرية على جمع عدد لإكماله، فقاموا بجمع الأطفال الصغار وتجنيدهم وعمل ختان جماعي لهم بعد التدريب العسكري، واحتفل أهل القرية مع أطفالهم الجنود المختونين ومن ثم تم إلحاقهم بالعمليات العسكرية بالمنطقة[3].
واستمرت هذه الإعمال حتى ظهور الذهب بالمنطقة، فقام كل حملة السلاح بوضعه والعمل في مناجم الذهب [4]، وفي بداية الألفية الثانية، دعا الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في نظام البشير، إلى اجتماع موسع ضم جميع أعيان القرية، حيث هددهم بضرورة حمل السلاح مجددًا والقتال إلى جانب الجيش السوداني، مشددًا على أن من يرفض ذلك سيُعتبر متمردًا. إلا أن الأهالي رفضوا هذا التهديد بشكل قاطع. وفي خطوة رمزية قوية، قامت نساء المنطقة بجمع الأسلحة من المقاتلين، وحملنها على رؤوسهن إلى قيادة الجيش في جبال النوبة، تعبيرًا عن رفضهن القاطع لمشاركة المدنيين في القتال.
عودة لما أصاب أجساد النساء والأطفال خلال حروب السودان الأهلية
وفقًا لشهادات جمعتها كاتبة التقرير من شهود/شاهدات عيان من ولاية جنوب كردفان بالتعاون مع (ك.ف) امرأة خمسينية من جبال النوبة، تم توثيق انتهاكات جسيمة ضد النساء والفتيات في المنطقة، شملت حالات اغتصاب واختطاف، وزواج قسري على أيدي القوات المتنازعة بالإضافة إلى جرائم مرتكبة بحق الأطفال
ففي ولاية جنوب كردفان تحكي (ك. ف) عن قصص اغتصاب النساء والفتيات واختطافهن في مناطقها بواسطة الجيش والحركة الشعبية.
إذ قالت أنه وعندما ازدادت عدد الانتهاكات الجنسية على الفتيات والنساء وبعد دخول الجيش قريتها قام أهالي القرية بتسعير الزواج ( وضع مهر ثابت لكل نساء القرية)، وأضافت أن كل جندي يطلب يد فتاة في القرية يقومون بتزويجها حتى لو كانت قاصر درءاً للانتهاك الذي قد تحدث إذا لم يتم الزواج، وعلى ذلك تم تزويج عدد كبير من نساء وفتيات القرية لجنود تلك الكتيبة، وبعد فترة قصيرة تم نقل الكتيبة إلى منطقة أخرى فذهب الجميع دون أخذ زوجاتهم أو حتى طلاقهن، وبعد فترة وجيزة اجتمع أعيان المنطقة واعتبروا النساء والفتيات مطلقات وكان بينهن ذوات حمل، حتى قدمت كتيبة أخرى وتزوج جنودها نفس النساء والفتيات مرة ثانية.
أضافت الشاهدة أن هنالك جندي بالجيش السوداني، كان يقوم بأخذ زوجة أحد سكان القرية يوميًا تحت تهديد السلاح ويقوم باغتصابها، وعندما غضب زوج الضحية من الجندي قام بقتله وردًا على ذلك قام أفراد الكتيبة من الجيش السوداني بإعدام الرجل رميًا بالرصاص في ميدان عام بعد إغلاق الدكاكين وحضور جميع أهل القرية، ولم يتم الحديث عن هذه الجريمة مطلقًا. وأضافت أن 11 طفلة من المغتصبات توفين بحوادث الولادة لصغر سنهن على الإنجاب.
وبحسب رواية شاهدة أخرى، قامت قوات الجيش السوداني بقتل الأولاد حتى لا يلتحقوا بالحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان أو المليشيات المقاومة لهم آنذاك، ففي قرية الاميرة قام الجيش بقتل الأولاد بالأسلحة الحادة (يقوم الجندي بطعن الطفل بالسونكي من بطنه وإخراجه من الخلف وتكرار العملية بعدد الأطفال الموجودين)، لذلك أصبحت النساء يقمن بدفع بناتهن لقوات الجيش، لكسب رضاهم وتهريب الأولاد إلى الشمال حتى لا يتم قتلهم.
وأضافت أن جنود الجيش عندما دخلوا قرية كرونجة بولاية جنوب كردفان، جمعوا جميع ملابس النساء وتركهن عاريات يختبئن خلف الأشجار وتحت الجبال، عندما دخل السيد (ف) هذه القرية وجد جميع النساء بلا ملابس فقام بتوزيع قطعتي قماش لكل سيدة[5].
وهذا بالإضافة إلى عمليات الاغتصاب التي تعرضت لها النساء والفتيات المعروفات بـ”الفازعات”، وهن اللاتي يذهبن لجلب الماء ووقود النار، يتم اغتصابهن هناك حتى انتشر فيديو على فيسبوك قبل 5 سنوات، يشهد توثيق مسلحين يرتدون أزياء جهاز الأمن والمخابرات السودانية وبعضهم زي الجيش السوداني، قاموا باغتصاب شابة بغابات النيل الأزرق بالتناوب، وقد وجد الفيديو تنديدا واسعًا من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت القضية قضية رأي عام ثم اختفى الفيديو وأغلق ملف القضية.
ونقلا عن والدة أحد جنود الشرطة الشعبية التابعة للجيش السوداني، أنه وعندما خرجوا للعمليات العسكرية بمناطق جبال النوبة، رأوا سيدة تحمل ” طشت” على رأسها، وتم إطلاق النار عليها من بعيد ظناً أنها جاسوسة تتبع للحركة، وعندما اقتربوا وجدوا أنها تحمل أطفال توأم على رأسها لأنها لا تستطيع حمل اثنين حديثي ولادة.
أما الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان وبحسب حديث شاهد عيان فكانت عندما تهاجم منطقة في جبال النوبة تقوم بتوزيع البنات على حسب عدد أفراد الكتيبة، ليتم اغتصابهن بالتناوب إذا كان عددهن لا يكفي لكل جنود الكتيبة، حتى برزت أرحام عدد من البنات بسبب الاغتصاب المتكرر في وقت قصير.
وأضاف أن الأطفال الذين ولدوا نتاج اغتصاب قوات الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان يسمون ب”الأنانة”، لأنهم أبناء الأنانة والفرد منهم يسمى (ناناي) فيطلق على كل أطفال الانتهاك ( ناناي زينب مثلا).
وقتذاك وبحسب رواية الشاهدة (ك. ف) أنهم وبسبب بعدهم عن التعليم و غياب وسائل الاعلام، فانهم لم يكونوا يعرفون من تكون هذه المليشيات حتى ظهور راديو الحركة الشعبية بالمنطقة، فتعرفوا على هوية المتواجدين بمنطقتهم بأنهم قوات الحركة الشعبية التي وقعت اتفاقية سلام مع الحكومة السودانية في العام 2005، لتطوي صفحة عقدين ونصف من الصراع المسلح مع حق تقرير المصير للجنوب المسيحي الذي اختار الانفصال في العام 2011 بعد الاستفتاء، ويستمر تواجد الحركة الشعبية/ الجيش الشعبي لتحرير السودان جناح الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو، الذي يسيطر على أجزاء من ولاية جنوب كردفان تسمى بالأراضي المحررة، لأنها تحت سيطرته ومع حرب أبريل 2023 تقدم الحلو في جنوب كردفان و بعض مناطق ولاية النيل الأزرق لتوسيع رقعة سيطرته العسكرية.
أجساد النساء في دارفور لا زالت تئن
عانى إقليم دارفور الواقع في غرب السودان لعقود من صراعات دموية بين الحركات المسلحة المناهضة للحكومة والمليشيات المدعومة منها، ورغم تصوير الإعلام الحكومي لهذه الصراعات على أنها تمرد، إلا أنها في جوهرها صراعات على الثروة والسلطة.
بدأت هذه التحولات في ثمانينيات القرن الماضي عندما قامت حكومة الصادق المهدي بتسليح المجموعات العربية على حساب المكونات الإفريقية الأخرى، مما أدى إلى ظهور مجموعات عُرفت بـ”الأمباقة”، التي جابت الإقليم على ظهور الدواب، وارتكبت انتهاكات واسعة ضد المزارعين والسكان المحليين.[6]
مع مرور الوقت تحولت “الأمباقة” إلى مليشيات الجنجويد[7]، التي كانت مساندة للرئيس السوداني السابق عمر البشير بقيادة موسى هلال، وارتكبت جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي في مناطق واسعة من دارفور، منها سرفايا وبركة وكويم وشقرا وكوبي، بالإضافة إلى المناطق الصحراوية شمالي كٌتم، وبلغت هذه الجرائم ذروتها بين عامي 2003 و2014، حيث تضمنت القتل الجماعي، التهجير القسري، والاغتصاب الممنهج ضد النساء[8].
ورغم توقيع اتفاقية السلام بين حكومة البشير وحركة جيش تحرير السودان جناح مني أركو مناوي في عام 2006 التي تقضي بزع سلاح الجنجاويد والمليشيات الأخرى، ودمج قوات جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة في القوات المسلحة السودانية والشرطة السودانية، وبدء برامج العودة الطوعية للنازحين، استمرت انتهاكات الجنجويد، التي تحولت لاحقًا إلى قوات حرس الحدود[9]. وفي عام 2013، انشق محمد حمدان دقلو “حميدتي” عن قوات حرس الحدود، مؤسسًا قوات الدعم السريع التي أُقرت رسميًا في البرلمان السوداني عام 2017[10]. وبرغم تحالفه مع البشير لفترة طويلة، انحاز حميدتي لثورة الشعب في 2019، ثم انقلب مع البرهان في 2021 على الشراكة المدنية العسكرية، ولاحقاً اندلعت الحرب بينه وبين الجيش السوداني في أبريل 2023.
في إقليم دارفور كانت الانتهاكات الجنسية جزءًا من حرب طويلة ضد المدنيين منذ اندلاع النزاعات المسلحة في الإقليم عام 2003. فقوات الجنجويد المدعومة من حكومة الإنقاذ وقتها، نفذت عمليات إبادة جماعية واغتصابات ممنهجة بحق النساء، خصوصًا في مخيمات النزوح. استمرت هذه الجرائم بعد توقيع اتفاقيتي سلام دارفور لتشمل مناطق مثل تابت، حيث سجلت حالات اغتصاب جماعي لنحو 200 امرأة في 2014، وفقًا لروايات حقوقية وتقارير منظمات مثل هيومن رايتس ووتش[11]، ومنعت القوات المسلحة السودانية التحقيق في الحادثة، وحاولت التستر عليها بنفيها رسميًا.
كما وثقت ناشطات من ولاية شمال دارفور، حالات اغتصاب للنساء أثناء جمع الحطب المستخدم كوقود للطبخ، خاصة في مناطق مثل “كولقي” ومعسكر زمزم للنازحين. والجناة في أغلب الحالات كانوا أفرادًا من قوات الدعم السريع أو مليشيات عربية مسلحة تُعرف بـ “الأبّالة”، الذين كانوا يستخدمون خطابات كراهية مثل “يا الأمباوية”، في إشارة عنصرية إلى النساء من المجموعات ذات الأصول الإفريقية[12]. هذا الخطاب يعكس رؤية الجنجويد والمليشيات لمجموعاتهم كصفوة مقابل المكونات الإفريقية التي يُنظر إليها بازدراء.
رغم تعدد الانتهاكات والجرائم الموثقة، بقيت العديد من هذه الحوادث دون محاسبة فعلية، ما يعكس تحديات العدالة والمساءلة في سياق النزاعات المسلحة بالسودان.
من بين الشهادات الصادمة لهذه الجرائم، تحدثت قابلة من منطقة قارسيلا في وادي صالح بولاية غرب دارفور، عن انتهاكات ارتكبها علي كوشيب[13] وجماعته، شملت عمليات اغتصاب ممنهجة، وضع علامات حرق على أجساد الضحايا، وتشويه النساء كوسيلة لإهانة عائلاتهن. أشارت القابلة إلى الصعوبات التي واجهتها في علاج الضحايا بسبب التهديدات المستمرة من كوشيب، الذي أرهبها بقتلها إذا استمرت في عملها الإنساني.[14] وبحسب شهود عيان، تسببت الجرائم في حالات حمل قسري لم يتم الإعلان عنها غالبًا خوفًا من الانتقام[15]. أحد الأمثلة على ذلك ظهر عقب سقوط حكومة البشير، حيث تحدثت صحفية عن تعرضها للاغتصاب داخل معتقل جهاز الأمن والمخابرات[16]. في روايتها، أشارت إلى خطاب الكراهية الذي واجهته، حيث اعتبرها أحد أفراد الأمن ضحية لجرائم سابقة بسبب أصولها من غرب السودان.
رغم خطورة هذه الجرائم، فإن معظم البلاغات تُفتح ضد مجهولين بسبب خوف الضحايا وأسرهم من ردود فعل الجناة، مما ساهم في استمرار دائرة الإفلات من العقاب.
تلك الانتهاكات هي امتداد لممارسات سابقة ارتكبتها القوات الأمنية والمليشيات المسلحة، في مناطق النزاعات كسلسلة من الجرائم التي طالت جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق، وصولاً إلى مجازر فض اعتصام القيادة العامة في يونيو 2019.
ففي فترة حكم البشير، وثقت منظمات حقوقية ومنصات حالات اغتصاب عديدة في معتقلات جهاز الأمن والمخابرات، خاصة أثناء الاحتجاجات التي نادت بإسقاط النظام[17]. كما شهد فض اعتصام القيادة العامة في يونيو 2019 جرائم اغتصاب جماعية نفذتها القوات المشتركة، المكونة من الجيش السوداني والشرطة وقوات الدعم السريع وكتائب الأمن الشعبي وكتائب الظل التابعة لجهاز الأمن والمخابرات[18]. وهذه الانتهاكات كان هدفها الأساسي تكميم أفواه الثوار، واستمرت حتى بعد سقوط النظام.
الطفلة (ح) 13 عام من معسكر كريندينق للنازحين بمدينة الجنينة بولاية غرب دارفور، روت ما حدث معها بعد سيطرة المليشيات العربية المساندة لقوات الدعم السريع على المنطقة في نوفمبر 2023
قالت (ح) إنهم خرجوا قاصدين منطقة اردمتا وهي منطقة تابعة لقيادة الجيش السوداني، عند السادسة صباحًا اعترض طريقهم ست شباب ينتمون إلى المجموعة العربية، قاموا بضربها ثم اغتصبها فردين منهم أمام مستشفى النسيم، وتركوها على الأرض برفقة ثماني أخريات تعرضن أيضاً للاغتصاب، على يد المجموعات العربية المساندة لقوات الدعم السريع. وأضافت (ح) أنهن هربن نحو الحدود التشادية، إذ نقلها شخص على متن سيارته إلى الحدود، ولأن عبور السيارات نحو مخيم أدري ممنوع، قالت إن الشخص تركها بمنطقة القوات المشتركة السودانية التشادية لتقوم الأخيرة بنقلها إلى المستشفى، وتتحدث عن أنها لم تستطع أن تروي ما حدث معها، حتى تعرفت على شابة تقول أنها فقدت أهلها في أحداث الجنينة، أخبرتها أنه تم اغتصابها من قبل شخصين من العناصر العربية، فقامت الشابة بتبليغ الكادر الموجود بالمستشفى وقاموا بإعطائها ثلاث محاليل وريدية وبعض الادوية الأخرى، وبعد أيام خرجت من المستشفى لتذهب إلى مخيم ادري التشادية، والذي يبعد ب 28 كيلو عن مدينة الجنينة، وأضافت أن الطبيبة طلبت منها الذهاب إلى هناك لتجد الرعاية الكافية، لأن الوضع بالجنينة لا يسمح لهم بمتابعة حالتها أو تقديم أي خدمة علاجية أو دعم نفسي، وقالت أنه حتى بعد وصولها إلى المخيم لم يتم تقديم اي خدمة لها سوى فوط صحية و” مشمع و حبل” لنصب خيمتها بالمعسكر وما زالت احتياجاتها كثيرة، كما أنها في حاجة لذويها الذين لا تعرف ماذا حدث معهم.[19]
حرب أبريل 2023 شهادات واحصائيات عن حرب تخاض على أجساد النساء
خلال حرب إبريل المستمرة بين الجيش السوداني المساند من القوات المشتركة للحركات المسلحة والمستنفرين من جهة، وقوات الدعم السريع من الجهة الأخرى، عاشت النساء السودانيات حالة خوف مستمر بسبب المليشيات المسلحة في المناطق المختلفة والتي ترتكب جرائم عنف جنسي واغتصاب كل فترة.
فشهدت ولاية شمال دارفور منذ اندلاع الصراع المسلح في 15 أبريل 2023 عدة حوادث انتهاك جسيمة لحقوق الإنسان، حيث سجلت منظمات حقوقية 76 حالة اغتصاب، من بينها حادثة اعتداء على امرأتين بوحدة مدو الإدارية بمحلية المالحة، تعرضت إحداهما للاغتصاب، بينما أطلقت النار على الأخرى أثناء محاولتها الفرار. لم يُبلَّغ عن هذه الجريمة بل تم التستر عليها من خلال تدخل زعيم المنطقة لتسويتها.[20]
في 29 مايو من نفس العام، تعرضت فتاتان بمنطقة كراكسار جنوب محلية كُتم بولاية شمال درافور للاعتداء من قبل مليشيات. كما سجلت منظمة مهتمة بقضايا المرأة السودانية في دارفور 103 حوادث اغتصاب في ولايتي جنوب دارفور وغربها منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل الماضي وحتى بداية أغسطس[21]، في حين تلقت 24 ناجية فقط الدعم اللازم.
كما وثقت إحدى المبادرات 79 حالة اغتصاب في الخرطوم، من بينهن أربع قاصرات. وأشارت المبادرة إلى وفاة ثلاث سيدات جراء الاعتداءات الجنسية.[22]
في 29 مارس 2024، تم اغتصاب فتاة تحت تهديد السلاح، بجبل ولي غرب وحدة مستري الإدارية بولاية غرب دارفور.[23]
بحسب تقديرات ناشطات/ين، بلغت جملة الاغتصابات 300 حالة حتى يونيو 2024، شملت ولايات الخرطوم والجزيرة ودارفور. ففي الخرطوم، أظهرت قوات الدعم السريع توثيقًا لبعض هذه الجرائم عبر فيديوهات نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها سرعان ما اختفت.
شهود عيان أفادوا عن حالات اختطاف لفتيات من أم درمان وبيعهن في أسواق دارفور. وفي منطقة كويم غربي الفاشر بولاية شمال درافور، أُبلغ عن قوافل تحمل مسروقات وفتيات يُعتقد أنهن من شمال السودان، متجهة نحو ولاية جنوب دارفور[24]. مزارع في الفاشر شهد قافلة لقوات الدعم السريع ترافقها شابات مقيدات بالسلاسل، تم اختطافهن من مناطق مختلفة في الخرطوم، وأخبرنه بخوفهن من مصير مجهول.
سجلت حاضرة ولاية غرب دارفور الجنينة ب انتهاكات عديدة خلال فترتين، الفترة الأولى (أبريل – يونيو 2023)، كانت فترة النزاع القبلي بين مجموعات المساليت والمجموعات العربية المساندة لقوات الدعم السريع، حيث سجلت خلالها نحو 190 حالة اغتصاب[25]، وبحسب شاهد عيان وهو مدافع عن حقوق الإنسان أن بعض الجناة من قوات التحالف السوداني، يتبعون لحاكم ولاية غرب دارفور المقتول على أيدي الدعم السريع خميس أبكر [26][27] -. ففي مايو الماضي تعرضت 30 شابة من داخلية الزهراء بحي الجمارك، إلى اقتياد بواسطة جنود التحالف السوداني واغتصابهن بصورة متكررة. [28]
ظلت داخلية الزهراء التي تقع بمنطقة سيطرة قوات التحالف السوداني، تأوي طالبات الجامعة ثم النساء الفارات من إنتهاكات المليشيات المسلحة في مدينة الجنينة، عقب اشتداد الصراع بين المجموعات العربية وقبيلة المساليت.
أما الفترة الثانية (يونيو- نوفمبر2023)، هي التي تلت انسحاب قوات التحالف السوداني بعد مقتل الوالي خميس أبكر، فبحسب منظمات حقوقية تم فيها اغتصاب أكثر من 90 شابة من أحياء الجنينة المختلفة انتقاما لما فعلته قوات التحالف السوداني[29]، وذلك عبر تمريرهن على أماكن تمركزات الدعم السريع واغتصابهن فيها، ومعظم الناجيات ذهبن إلى مخيم أدري بدولة تشاد.
وبحسب شهود عيان فإن كل مليشيا تقوم باقتياد النساء المتواجدات بمناطق سيطرتها، إلى أماكن مجهولة واغتصابهن بصورة متكررة، وشهدت حاضرة غرب دارفور أكبر عملية انتهاكات جنسية بالمنطقة منذ اندلاع النزاع الحرب، حتى سقوط المدينة في نوفمبر الماضي.
خاتمة لعذابات مستمرة
منذ اندلاع النزاعات الاهلية في السودان وظهور الحركات المسلحة ضد الحكومة السودانية، ظلت النساء تدفع ثمن هذه الحروب التي تخاض في هذه الأرض، لتفوق عدد الانتهاكات الجنسية من القوات العسكرية والمليشيات المسلحة الآلاف من الحالات، في ظاهرة هي الابشع في تاريخ الحروبات في افريقيا.
لتأخذ قوات الأمباقة التي تحولت إلى الجنجويد، ومن ثم حرس الحدود وأخيرًا قوات الدعم السريع، النصيب الأكبر من عدد الانتهاكات الجنسية التي حدثت للنساء في السودان الحديث، فهل يا ترى ستنتهي حرب أبريل وتقوم عدالة حقيقية، تنصف المرأة وتوقف خوض الحروب على جسدها أم تستمر سلسلة الانتهاكات الجنسية بحق المرأة السودانية إلى الأبد.
[1]جيش التحرير الشعبي السوداني (SPLA) كانت حركة انفصالية مسلحة تحولت بعد الانفصال عن السودان إلى جيش جنوب السودان. تأسس سنة 1983 أثناء الحرب الأهلية السودانية الثانية وكان يتزعمها جون قرنق. وهي إمتداد للأنيانيا التي تأسست أثناء الحرب الأهلية السودانية الأولى في خمسينيات القرن الماضي وعادت للظهور بأسم الأنيانيا 2 في الحرب الأهلية السودانية الثانية إلى أن هزمت على يد الحركة الشعبية /الجيش الشعبي لتحرير السودان وتم دمج بعض اعضائها في صفوف الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان
[2] معظم مناطق جبال النوبة كانت تعتنق الديانة المسيحية بالإضافة إلى ديانات افريقية وثنية قديمة في فترة كانت الديانة الرئيسة للدولة السودانية وبحسب الدستور هي الإسلام وتتبع القوانين للشريعة الإسلامية
[3]استنادًا إلى شهادات مكتوبة من أفراد عايشوا حروب النوبة، تم توثيق هذه التفاصيل (مصادر غير معلنة، 2024).
[4] نفس المصدر، 2024.
[5] نفس المصدر، 2024.
[6]«الجنجويد» وملف تسليح القبائل العربية – الموقع الرسمي للصادق المهدي
[7]موسى هلال.. زعيم قبيلة المحاميد في إقليم دارفور
[8]موسى هلال.. زعيم قبيلة المحاميد في إقليم دارفور
[9]الإخوة الأعداء: البرهان وحميدتي… نهاية صداقة أشعلت السودان–صحيفة الشرق المتوسط
[10]البرلمان السوداني يجيز قانونًا جديدًا لـ«قوات الدعم السريع – صحيفة الشرق المتوسط »
[11]عمليات الاغتصاب الجماعي في دارفور – تقرير هيومن رايتس ووتش
[12] مقابلة مع ناشطة حقوقية 1 نوفمبر / تشرين الثاني 2024
[13] علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بـ”كوشيب”، كان قائدًا للجنجويد خلال الفترة من أغسطس 2003 إلى أبريل 2004، كما كان فاعلاً مع قوات الدفاع الشعبي، وهو بالأساس ضابط صف بقوات الاحتياطي المركزي، تدرج فيها حتى وصل إلى رتبة المُساعد، وقوات الاحتياط هي التي فُرضت عليها عقوبات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب قمعها العنيف للمظاهرات السلمية منذ ديسمبر 2018، وارتكب كوشيب جرائم حرب عديدة، لكنه سلم نفسه للمحكمة الجنائية الدولية في عام 2019 حيث يواجه محاكمة عن تلك الجرائم.
[14] مقابلة مع قابلة تم نشرها على الإنترنت خلال اعتصام القيادة العامة ثم حذفت 2019
[15] مقابلة شخصية مع ناشطة حقوقية (طبيبة) 2 2022
[16] مقابلة مع صحفية تم نشرها على الإنترنت خلال اعتصام القيادة العامة ثم حذفت 2019
[17] تسريب من ناشطة حقوقية1 فضلت حجب اسمها واسم مؤسستها
[18] دايرين موت ولا اغتصاب؟” دراسة تحليلية للعنف الجنسي والقائم على نوع الجنس في اعتصام الخرطوم، 3 يونيو 2019
[19]مقابلة مع الطفلة (ح) أجراها ناشط حقوقي م.ر بطلب من كاتبة المقال، شباط/فبراير 2024
[20] مقابلة شخصية مع شاهد عيان وناشط حقوقي 3، كانون الأول/ديسمبر 2024
[21] تسريب من ناشطة حقوقية 2 تعمل في ذات المنظمة التي رصدت حوادث الإغتصاب كانون أول/ ديسمبر 2024
[22] تسريب من طبيبة وناشطة حقوقية 3 كانون أول/ ديسمبر 2024
[23] حادثة رصدها الناشط الحقوقي م.ر بتاريخ آذار/مارس 2024 ونقلها لكاتبة المقال بتاريخ تشرين الثاني /نوفمبر 2024
[24]الاستعباد الجنسي فتيات للبيع في “خور جهنم” بالسودان
[25] تسريب من محامية و ناشطة حقوقية 4 ، كانون أول/ ديسمبر 2024
[26] بدأت حوادث اعتداءات قوات التحالف السوداني في بداية النزاع المسلح بين المساليت والقبائل العربية وانتهت بمقتل قائدها خميس أبكر ثم تراجعت مجموعات التحالف السوداني لتكون المنطقة بأكملها تحت سيطرة قوات الدعم السريع و المكونات العربية التي ارتكبت انتهاكات جسيمة تجاه المدنيين بالمنطقة.
[27] مقابلة شخصية مع أحد الناجين من أحداث الجنينة غرب دارفور ، كانون أول / ديسمبر 2024
[28] تسريب من محامية و ناشطة حقوقية 4 ، كانون أول/ ديسمبر 2024
[29] مقابلة شخصية مع ناشط حقوقي كانون الأول/ ديسمبر 2024