بقلم: عائشة وسفانة أبو صافية
“أرض المعركة صعبة كتير كتير خاصة علينا كنساء وأطفال” ..
هذا ما قالته أم من غزة في الشهادة التي حُمِّلَت على الإنترنت في تشرين الأول عام ٢٠٢٣ إذ تعدّ هذه الشهادة واحدةً من مجموعةٍ هائلةٍ من الشهادات الفردية الموثّقة منذ بداية آخر عدوانٍ للاحتلال الصهيونيّ على غزة، خلال العام الماضي شاهدنا تصعيداً في العُنف الاستيطانيّ وآثاره المتراكمة في الأراضي الفلسطينيّة المُحتلّة وقد جاء تنفيذ إبادةٍ جماعيةٍ مستمرةٍ في قطاع غزة مكملاً لهذا التصعيد ليكون وسيلةً لقتل الشعب الفلسطيني في غزة ودفعهم للنزوح من أراضيهم وإخماد فعل المقاومة ضمن حدود هذا القطاع .
هذا الانتهاك الذي يستهدف احتياجات وإرادة وحقوق النساء والفتيات الفلسطينيات، بما فيها حقوقهنّ الإنجابية، يمثل أداةً من أدوات الاحتلال في تنفيذ الإبادة الجماعية، ويُصنَّف هذا العنف أحياناً كثمنٍ جانبي في حالات الحروب، ولكن هذا النوع من العنف هو بالفعل جزء لا يتجزأ من الأهداف الرئيسية لأصحاب المصالح الحربيّة ومنهجية العنف القمعي، في هذا المقال سنبحث عن توظيف العنف الإنجابي في سياق الوضع الحالي في قطاع غزة بما في ذلك آثار كل هذه السنوات من العنف الشبيه الذي يمارسه الاحتلال في القطاع بالإضافة إلى أثر الظروف الحالية في قطاع غزة على طبيعة وواقع الأمومة والتربية التي تمارسها النساء هناك.
تجسّد السلطة: يُمارس عنف إنجابيّ هيكليّ على النساء في غزة
فيما تقتسم النساء فيما بينهُنَّ حبوب منع الحمل في خيم النزوح، يرتدي جنديٌ إسرائيليّ ملابس لَيلِهنّ في فوتوسيشن “جلسات تصوير” الإبادة، لا تصدّقُ إسرائيل أن لنا ليلنا، وفي ليلنا حين نُحبّ قد نحجز مقعدًا لنا في أعياد العالمين، تذكرةً نحو عيد الأم مثلًا، ستقطعُها ثُريّة في أول أسابيع الحرب، لكن إسرائيل ستُبدّلُ مسار الرحلة عُنوةً، وستقذف بها نحو رحلة الوهن، رحلة الحمل في خيمة نزوح، تقول: “بنطلوني بطل يجي عليّ، بسكره بـ بُكلة[1]“.
هذا اليوميُّ الذي يُلحُّ على ثُريّة في فترة حَملِها التي تقضيها في خيمة النزوح في رفح، أما خوفها مما هو آتٍ فهو كابوسُ الميلاد في الخيمة إن استمرت هذه الحرب حتى ميعاد وضعِها، “بولد بشهر سبعة، بكون كتير شوب وين بدي أولد ووين بدي أنام؟”، هكذا استطالت أيامُ الحرب حدَّ القفز بين الفصول، حد التعامل مع موجات البرد القارس وافتقاد التدفئة.. ثم تصور التعامل مع موجات الحر، وخيام النازحين قد أصبحت منذ أول الربيع أفران لا تحتملها الأجساد، تُشارك ثُريّة خوفَها من حرارة الشمس المتوقع ارتفاعها مع توغل الصيف والحرب، تشارك خوفها من مخاض محتمل في الخيمة، تشارك ذلك وقد ضاقت عليها ملابس نزوحها مع تكور بطنها وازدياد وزنها.
روزنامة الإنسانية: كيف مر عيد الأم؟
ماذا نفعل بروزنامة الإنسانية الحافلة بالمسرات والأعياد، هل نلغي الأعياد؟ نقفز معكن عنها؟
ربما علينا ألا نقفز فنسرين كانت تنتظر هديَّتها، هذا العام لم تصنعها ابنتها سلمى في المدرسة في درس الأشغال اليدوية ولم تجمع ثمن المواد من مصروفها، هذا العيد كما تقول “إذا بنتي جابتلي قنينة ميه حلوة[2] بعد مشي ٢ كيلو، يخلِف عليها[3]“..هذه هديةٌ جيّدة، فماءُ العين مالح، وعلينا أن نكسر مُلوحَته، وعلى صبرهنّ ألا ينفذ الآن، عليهنّ أن يصبرنَ فالأطفال جياع والأمهات صيَّرَتهُنَّ الحربُ مخابز، في غزة تعجنُ الأمّهاتُ الخبزَ ويعجِنُهُنَّ الخوف، تتجاذَبُهنَّ الفواجع التي يُحضرها لهن الاحتلال وأزلامُه، حزنٌ يمحي فاجعةً، وفاجعةٌ تمحي مجزرة، وهكذا تدور يوميات الإبادة.
لا عيد هذا العام، تُردِفُ نسرين: “يعني هسا لو نرجع ويقولونا اقعدوا بالبيوت أمهات وولاد، والحرب تخلص..هادي حرب بحد ذاتها”، هكذا تصفُ تصوُّرَها تجاه أفضل السيناريوهات: أن تضع الحرب أوزارها، بَيدَ أنّ هذه الحرب حين تقررُ الوَضع، ستَضعُ أحمالَها على أكتاف النساء والأمهات، اللّاتي صرنَ أسقُفَ البيوت، فيما يُرسل الاحتلال لكلّ سقفٍ حصّتَهُ من الصواريخ.
تقول إحدى البنات/ الأمهات “عيد الأم خلَّص، أمي استشهدت”، تقول ذلك بلسانِ الابنة، وقد يَتَّمَها الاحتلال، وتنسى أنها أيضًا أمّ، أمٌ قد يُثكِلُها الاحتلال في أي لحظةٍ من عمر الإبادة، إذن هيا نقفز عن أعياد العالمين نحو كارثيّة أيامنا، لا عيد هذا العام، لأن لا أمهات، ثمة شهيداتٌ وأُخرياتٌ ثَكالى وثالِثاتٌ قد يَصِرنَ ثَكالى.
ولكن سيظلُّ لنا ليلُنا، وستظلُّ لنا ملابسُ ليلِنا، وفيه قد نحجزُ رحلةً نحو روزنامةٍ سنقرّر لاحقًا أيامَها وأعيادَها.
المقاومة فعل يومي: أسئلة الأمومة؟
ينتهي العيد، ولا تنتهي الأمومة. نقفز عن يوم الاحتفال، ولا نقفز عن اليومي من المسرات والمسؤوليات. واليومي يثير الأسئلة، والأسئلة تقود للأجوبة.
تبدو مآلات الرحلة بسيطة، لكن عند الإمعان في تفاصيلها، وعندما تقرر النساء والأمهات مشاركة مسارات رحلة سؤال الأمومة وإجاباته، تبدو الحقيقة: الرحلة ليست في طريق منبسط هيّن، إنها غابة تخوضها النساء بين قرار الإنجاب وقرار اللاإنجاب ابتداءً، ثم يخُضنها في كل تفصيل يومي في رحلة الأمومة.
وحين تلم بالنساء الحرب، فإن الأسئلة امتحان، والأجوبة امتحانات. تخبرنا نورهان أسعد عن تصورها تجاه الأمومة، وهي التي أجّلت خيار الإنجاب دون أن تعارضه قبل الإبادة وتقول: “لم أكن يومًا خصيمةً لأن أنجب طفلًا أراه عالمي، لكن الحرب جعلتني أرغب في أن أكون عقيمة ولو مجازًا” تعلل ذلك باللحظات القاسية التي عاينت فيها أوضاع الأمهات، ومن ذلك بقائهُنّ جائعات في سبيل إعطاء نصيبهن لسدِّ رمق أطفالهنّ، وأي نصيب؟ نصيبهُنّ من خبز الشعير والأعلاف! ومن ذلك أيضًا تأنيب الأمهات على جوع أطفالهن، تتحدث نورهان عن توبيخ إحدى الأمهات في زحمة النزوح: “روحي يلا أولادك جوعانين وما بيشبعوا، خليهم يسكتوا والله لو يجتاحونا وبنتك بتعيط ليقتلونا اليهود، سكتيهم لندعي عليكم، ما عرفتي تربي بس كنتِ تدللي وهي اليوم بتجني حصيدة إنو أولادك جوعانين وما بيرضوا يشبعوا ولا يقنعوا” بالفعل سمعت أم في غزة لا تجد ما يشبع أطفالها بفعل سلاح التجويع الذي تستخدمه إسرائيل، سمعت هذا التقريع القاسي، وسمعته معها نورهان التي كانت قد أجَّلت إنجابها، فامتنّت أنها أجَّلَته بالفعل!
بين الإنجاب واللاإنجاب، متاهات تخوضها النساء في العادي من ظروف الحياة فكيف إن داهمتهُنّ أسئلة الأمومة من عدمها تحت حرب إبادةٍ قتلت فيها إسرائيل آلاف الأطفال. سنعرف حين تضع الحرب أوزارها ماذا فعلت الحرب بأرحام النساء، وبرغباتهنَّ الإنجابية.
العنف عبر الأجيال: تراكم الصدمة النفسيّة والأمومة.
تؤثّر الصدمات المستدامة والمشاعر المختلطة الثقيلة بشكلٍ جذريّ على نفسيات وأجساد الشعب الفلسطيني عامةً بالضرورة وعلى نفسيات وأجساد النساء الفلسطينيات خاصةً، فالقهرُ والإحباط والخوف والفقدان كلها تؤثر في تجاربهنّ اليوميّة وصحتهِنّ النفسيّة والجسديّة طوال حياتهنّ، كما أن سياق ما يحدث في غزة اليوم يدفعنا إلى إعادة التفكير وتخيّل أثر الصدمات المستمرّة على نفسيّات الأفراد الذين يعيشون تراكُم تلك الصدمات منذ سنواتٍ عديدة.
إن هؤلاء الأفراد لا يعانون من “اضطراب ما بعد الصدمة”، كما يتناوله قطاع الصحة النفسية في الغرب، وذلك بسبب طبيعة الأعراض الدائمة التي يعانيها أهالي فلسطين المحتلة.[4] لماذا ليس كافياً “ما بعد”؟ لأن حالة العدوانية الصهيونية المستمرة على الأراضي الفلسطينية تُجبرنا لنفكّر في مفهوم أقرب وأنسب لأثر الصدمة على الشعب الفلسطينيّ ومجتمعات في سياقاتٍ أخرى شبيهة، حيث لن يكون مناسباً أن يتم حصر تأثير الصدمة في إطار “ما بعد”، فحالة الحرب مستمرة، والاحتلال لا يزالُ موجوداً ويُمارسُ القمع بكلّ أشكاله على الأراضي الفلسطينية وأراضي بلدانٍ عربيةٍ مجاورة، في المقابل فإن مفهوم “الصدمة المتنقّلة عبر الأجيال“ قد يكون واحداً من المفاهيم الأنسب لتفسير طبيعة الصدمة في السياق الفلسطينيّ، فمنذ بداية الاحتلال الصهيونيّ وبعد النكبة 1948 وحتى اليوم استمرّت العدوانية الإسرائيلية بكافة أشكالها من القتل والتهجير والاحتجاز وسرقة الأراضي الفلسطينية وتدمير البنية التحتية الفلسطينية.
أثبتت دراسة أُجريَت في جامعة فلوريدا الجنوبية (University of Southern Florida) أن النساء الحوامل خلال إبادة رواندا في التسعينيات تأثرن بتحولات كيميائية لحمضهنّ النوويّ كنتيجة مباشرة للتعرُّض للصدمة، وقد أدَّت هذه التحوُّلات إلى تحفيز ظهور اضطرابات نفسية جمّة لدى أطفالهنّ كالاكتئاب وأعراض اضطراب ما بعد الصدمة،[5] وعليه فإن التوتر والضغط المُزمن في السياق الفلسطينيّ يمكن أن يُقارَن بهذه الظروف التي يتناولها هذا البحث عن الإبادة الجماعية في رواندا، من الهام تسليط الضوء على حقيقة انتقال الصدمة من الأم إلى طفلها خلال فترة الحمل، وما بعدها في فترة التربية سواءً مرحلة الطفولة المبكّرة أو المراهقة، إذ أن تَعرُّضُ الأمهات للصدمة والضغط خلال فترة الحمل وخلال سنوات التربية يمكن أن يُعرِّضَهُن وأطفالهُنّ للضغط المزمن وتبعات اضطرابات نفسية وجسدية.
كيف يمكن لكلّ هذا أن يؤثر في تصورنا وفهمنا للأمومة والتربية في هذا السياق؟ إن هذا الواقع قد يعني أن الأمومة والتربية أفعال صمودٍ ومقاومةٍ أساسية ومستمرة، مع معرفة وفهم العُنف الجذري الذي يُمارَس على الأمهات وعائلاتهن في فلسطين المحتلة على مدار حيواتهم.
تأملاتنا عن الأمومة والتربية الآن
إن الذي بَقَرَ بطون الأمهات الحوامل في دير ياسين في النكبة عام 1948، هو ذاتُه الذي يُعرِّضُ نساء غزة اليوم للولادة القيصرية بلا تخدير، وهو ذاتُه الذي أَسَرَ أنهار الديك[6] أثناء حَملِها، وتسبَّبَ لها بأعنف مراحل اكتئاب ما بعد الولادة ما أودى بحياتها في النهاية، “الوجع اللي بقلبي ما بتعبي سطور” قالت ذلك وغادرت.
والعالمُ الذي صَمَتَ أوّل مرة صَمَتَ مراتٍ كثيرة، بما فيهنّ هذه المرة الأخيرة، لكن الذي سيثقل كاهل العالم بالذنب، أن صرخة دير ياسين لم يسمع عنها وقت حدوثها سوى أهالي القُرى المجاورة الذين بدورهم فزعوا من هول الوصف، وبالفَزَع هجّرهُم الاحتلال، لكن اليوم، العالم يسمع صراخ نساء غزة على الهواء مباشرةً، ثم يغلق هذا العالم، السيد والمتسيّد تلفازه، يعدّلُ ربطة عنقه، ويضع في أجندة العام برنامجًا لرفع الوعي بالصحة الجنسية والإنجابية.
في هذا الواقع، يختلف معنى وفعل الأمومة والتربية في مجتمعاتنا، وتأخذ هذه المفاهيم والممارسات أبعاداً عميقةً ومتعددة بسبب مواجهة الواقع التاريخي والحالي بأن النساء تحملن غصباً حملاً مضاعفاً كأمهات ومربّيات، تناوُل الأمومة والتربية واحد من أهم العدسات من أجل فهم العُنف الهيكلي القمعي في سياق فلسطين ومن أجل تَصوُّر معنى ونَفَسْ المقاومة في أشكالها المتعددة.
[1] البُكلة قطعة حديدية صغيرة تشبه مشبك الشعر وتُستخدم ذات استخدامه.
[2] ماء نظيف قابل للشرب
[3] مصطلح عامي، بمعنى عوّضك، ردَّ عليك مثل ما ذهب منك، في هذا السياق يأتي بمعنى الامتنان لها إن استطاعت أن تقوم بذلك.
[4] Yara M. Asi, The Trauma Experienced in Gaza is Beyond PTSD, New York Times
[5] The Unseen Scars, The Generational Trauma of Palestinian Occupation, Medium
[6] قامت قوات الاحتلال باعتقالها في عام 2021 ونفذ بحقها حكم لمدة 6 شهور وأُفرِجَ عنها بكفالة مالية قدرها 40 ألف شيكل وإقامة جبرية علمًا بأنها كانت حاملًا في الشهر التاسع في ذاك الوقت، ووضعت الأسيرة أنهار الديك مولودتها، في 9 سبتمبر 2021 بعد أيام قليلة من الإفراج عنها من سجون الاحتلال لكن بقيت وقتها رهن الإقامة الجبرية، وتم الإعلان عن وفاتها إثر سقوطها عن سطح منزلها في شهر فبراير 2024