الرئيسية 5 الإنتاج المعرفي 5 كيف نفهم هيئة تحرير الشام كحكومةٍ انتقاليةٍ من وجهة نظر ناشطات ريف حلب الغربي؟

read in English

كيف نفهم هيئة تحرير الشام كحكومةٍ انتقاليةٍ من وجهة نظر ناشطات ريف حلب الغربي؟

مايو 20, 2025

ميمي سعده (اسم مستعار)

أُنهي هذا المقال وأنا في دمشق في آذار ٢٠٢٥، لهذه الجملة رمزيّة مقاومةٍ بالنسبة لي ولحريّة التعبير التي حُرمتُ منها في عهد الأسد، أن أكتب عن سوريا من سوريا، وبنفس الوقت، لست واثقةً لو جاهرتُ في كتابتي لهذا المقال وأنا هناك لربما كنت لن أكتب الكثير من التفاصيل، خوفاً من تخويني أو اتهامي بالسوداويّة والتشاؤم، وربما يصلُ الاتهام أنني ربما أتحسر على سقوط الأسد سراً.

نعم هكذا هي سوريا اليوم في كثيرٍ من الدوائر التي نَشطتُ بها، تخوينيّة لو انتقدتَِ حكام سوريا الجُدُد، ولكن لم أُرِد تقديم انتقادٍ من فراغ، لذلك عُدتُ بهذا المقال لتاريخٍ ليس ببعيدٍ في استذكار دخول هيئة تحرير الشام وحُكمها لمناطق في شمال غرب سوريا، من خلال مقابلةٍ مع ناشطةٍ مدنيةٍ من المنطقة والكثير من الأحاديث مع ناشطين وناشطات ترددوا في المشاركة خوفاً من بطش الهيئة وانتقامها. 

بين هروب الأسد وإعلان الجمهورية التلغرامية عشنا فترةً مليئةً بالمُفاجآت، من تصريحات عبيدة أرناؤوط، المتحدث الرسمي باسم الإدارة السياسيّة التابعة لإدارة العمليّات العسكريّة عن “كينونة المرأة وطبيعتها البيولوجية والنفسيّة التي لا تتناسبُ مع كلّ الوظائف كوزارة الدفاع مثلاً”، إلى شيطنة منظمات المجتمع المدني وخاصةً المنظمات النسائيّة والنسويّة ووصمها بالأجندات الغربية وإسكاتها بحجة هدم قيم المجتمع في تصريحات مديرة مكتب شؤون المرأة عائشة الدبس، إلى الفرحة التي شعر بها أغلب الشعب السوري بانتهاء الحكم البائد، لكن ما حدث من فسحة تفاؤلٍ قُوبل بتحفظٍ من الصديقات الرفيقات من إدلب وحلب، عبَّرن عن شعورهنّ بالخوف لوصول الجولاني “أحمد الشرع” لدمشق، لكن المزاج العام حينها نظر لهنّ كمُتشائمات، ليس ببعيدٍ عن لحظة “التحرير والهروب” بدأتُ بالتفكير أنه لنفهم ما يحصل اليوم، وربما ما ينتظرنا، لابد من التعلُّم ممن سَبَقنَنا.

 

ياسمين ناشطةٌ نسويةٌ من ريف حلب الغربي، اختبرت حكم جبهة النصرة “هيئة تحرير الشام” بين ٢٠١٨ وحتى ٢٠٢٣.

أبدأ معها من البداية، أسألها: كيف بدأ كل ذلك؟، تقول أنه في ٢٠١٨ كان هنالك سيطرةٌ عامةٌ على ريف حلب الغربيّ من قبل الهيئة رغم الاقتتال مع فصائل عسكرية أخرى وقصف الطيران الروسي الداعم للأسد للمنطقة، تضيف: “حينها لم أكن قادرةً على الذهاب لعملي بسبب حظر التجوّل في المنطقة ومحاصرة مدينة الأتارب من مداخلها الأربعة، كانت مشكلة الهيئة الأساسيّة في حلب الغربي، لأنه كانت فيها المقاومة “للهيئة” أعلى “عسكرياً” وحتى مدنياً، وهيك كمان كان الوضع بالأتارب لأنها مدينة خصبة بالعمل المدني.”

في البداية كان المهم بسط السيطرة العسكرية على شكل حواجز للتفتيش، للحالات المُشتبه بها مثل الاشتباه بالتعامُل معك التحالُف الدوليّ أو التخابُر مع الغرب، بالإضافة إلى أنّ الكتابة والنشر فيما يتعلق بنقد أوضاع المنطقة سواءً بوجود دليلٍ أو عدم وجوده، حيث كانت الأخيرة تهمةً لاعتقال النشطاء والصحفيات والصحفيين، وغيرها من الانتهاكات التي يبرزها تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان عن “أبرز انتهاكات هيئة تحرير الشام منذ تأسيس جبهة النصرة حتى الآن” والصادر عام ٢٠٢٢، يرنُّ هذا الكلام في أذني، يبدو مألوفاً، تماماً هذا كان تصرف هيئة تحرير الشام في دمشق في بدايات استلام الحُكم، بدى للجميع خفّة تواجد وهدوء شباب الهيئة وهم يحافظون على الأمن والسِّلم، ولم يتم توقيف إلا من تم الاشتباه به بحسب الشبهات التي يُقرُّونها، كالقبض على مُرتكبي الانتهاكات في زمن الأسد. كان الانتشار بين المدنيين ملفتاً للنظر، الدخول للمقاهي لأخذ استراحةٍ والتفاعل مع الناس بأخذ صورٍ باللباس العسكريّ والوجوه المُلثّمة والأسلحة المُنتصبة، والحواجز التي اكتفت بالتواجد على أبواب ومخارج دمشق. 

منذ عام 2017 باتت هيئة تحرير الشام تحت قيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) القوة المُهيمنة في إدلب، في شمال غرب سوريا، وأنشأت هيئة تحرير الشام جبهةً مدنيّة، تسمى “حكومة الإنقاذ السورية” كذراعٍ سياسيٍ وإداريٍ لها، في مسعىً لمعالجة المخاوف بشأن وجود جماعةٍ مسلحةٍ تحكم المنطقة. وسلّطت هيئة تحرير الشام الضوء على الإنجازات على مستوى الحَوكَمة والبنية التحتيّة لإضفاء الشرعيّة على حكمها وإظهار قدرتها على توفير الاستقرار والخدمات، واستُبدلت المجالس المحلية بمجالس تُعيَّن من قبل حكومة الإنقاذ، وأُلغيَت مكاتب فعّالةٌ وخدميةٌ كانت قريبةً من الأهالي وتُدار من قبلهم مثل مكتب المواطنة لتقديم الشكاوى ومكتب المرأة الذي كانت تديره وتشرف عليه نساء من منطقة الأتارب التي كانت تُدار من قبل مجلسٍ محليٍ مركزيٍ يخدم عدة قرىً وبلدات في المنطقة. 

عندما تم مدّ السيطرة العسكرية وفرض القبضة الأمنية، بدأ التدخُّل بالمجالس المحلية والمنظمات والمبادرات وكل أنواع العمل الصحفي والمدني والشأن العام، وحصلت موجة الاستدعاءات لمنظمات المجتمع المدني والمبادرات الشبابية من المنطقة بهدف الرقابة وإظهار وفرض السيطرة، تقول ياسمين أن التعامل مع ريف حلب الغربي مقارنةً بتجربة إدلب الكبرى كان مختلفاً، تفسر ذلك بقولها “أولاً كانت المقاومة أعلى في ريف حلب الغربيّ، وتانياً أعتقد لأن إدلب خضعت لسيطرة هيئة تحرير الشام قبلنا بكثير، فتجربتها كانت أقدم، فبالتالي كان في سيطرة مدنية وعسكرية أكبر على حياة الناس.”

إدارة الحلال والحرام

 

 كل شيءٍ تغيَّر بعد عام ٢٠٢٠ عندما وصلت حكومة الإنقاذ إلى مستوى حوكمةٍ أعلى برأي ياسمين “صار في مكتب المنظمات، هذا المكتب هو المعني بكلّ شؤون المنظمات والمبادرات وإعطاء التراخيص”،  في ٢٠٢٠ كانت جائحة كورونا تكتسح العالم، لم يكُن هناك أي دورٍ للتعامُل مع الجائحة من تقديم خدمات أو محاولةٍ لاحتواء الوضع الصحيّ، ولكن انشغال العالم بالجائحة سمح لحكومة الإنقاذ بتثبيت حُكمها كسلطة أمرٍ واقعٍ في المناطق التي سيطرت عليها. 

تواجد جهاز الحسبة النسائي (وُجِدَ بمسميّاتٍ أخرى: سواعد الخير أو الفلّاح) أيضاً اختلف بين إدلب وريف حلب الغربي حيث كانت أكثر تشدداً في إدلب، جهاز الحسبة النسائي يتدخل بكل شيء حرفياً كما أخبرتني ياسمين وغيرها من الناشطات، مثلاً “إذا أنت ماشية بالشارع، إذا إنت معك حدا وقاعدة بحديقة، ما بعرف يعني أي شي بالحياة العامة بتعمليه هني عم يتدخلوا فيه.” تضيف ياسمين أنه لم يكُن هناك وجودٌ للحسبة في ريف حلب الغربي بنفس الطريقة التي تواجَدنَ فيها بإدلب، السيارة “الفان” ونساء الحسبة بداخلها، يتجوّلنَ في الأسواق ويتدخّلنَ في لباس النساء، تؤكد ياسمين “كان في رفض اجتماعي كبير بمجتمع ريف حلب الغربي كله على نوع هذا التدخل بسبب طبيعة المنطقة، الكل سُنّة مسلمين، الكل محجبة، الكل بصلي وبصوم، المنطقة لون واحد. المجتمع رفض الحسبة أو تدخل الحسبة بالحياة العامة لأنه هم معتبرين حالهم أصلاً ماشيين بالطريق اللي بيشوفوه صح ما بدهم حدا يصححلهم.” 

لكن تغيراً مهماً حصل في المنطقة وهو طبيعة الحجاب وانتشاره، فالانتقال من الحجاب الذي كان متعارفاً عليه في المنطقة إلى اللباس والحجاب الأسود “كرمزٍ للتطرُّف” كما تقول ياسمين انتشر بشكلٍ ممنهجٍ من خلال مدارس الوحي الشريف والمدارس الشرعية التي أسستها حكومة الإنقاذ مدعوماً بالخطب من الجوامع، كانت هذه المدارس مرغوبةً من الأهالي لأنها كانت مدعومةً مالياً أكثر من المدارس الأخرى التي تُدار من قبل منظمات المجتمع المدنيّ وبالتالي تأمين بعض الأساسيات المعيشية كان أولويةً لدى الأهالي بقبول التعليم الشرعي، كما شدَّت إليها طاقم التعليم أيضاً لأن الرواتب كانت أفضل، بالإضافة للسلل الإغاثية التي كانت تُوزَّع في تلك المدارس . 

تشاركني ياسمين تجربتها ضمن المبادرة النسوية التي كانت تعمل وتنشط ضمنها في ظلّ حكومة الإنقاذ، في البداية كان مكتب المنظمات يتصل بها للتذكير بضرورة التواصل مع المكتب بجملة “حابين نسمع صوتك”، كانت تتجاهل هذه الرسائل المُبطّنة وتقاوم الخضوع للضغط غير المباشر في تسجيل المبادرة لدى مكتب المنظمات التابع لحكومة الإنقاذ التي بدورها تابعة لتركيا ولعدم رغبتها في التبعيّة لحكومة غير شرعية ولتاريخ هيئة تحرير الشام العنيف في المنطقة. 

انتهى زمن الاستدعاء والطلب لتكون كل المبادرات والمنظمات مرخصةً بهدف التنظيم والذي تعتبره ياسمين واقعياً، ولكن القرارات التي تَبِعَت ذلك مع حجم التدخل في عمل منظمات المجتمع المدني لم يكُن منطقياً بالنسبة لها. تفسر ذلك الوضع بقولها ” بعد ٢٠٢١، إذا بدي أروح أرخِّص، فيه عندهم مجموعة طلبات لازم تستكمليها، عدد معين لازم تحققيه إذا كنتي جمعية أو منظمة مثل عدد متطوعين/ات أو عدد الموظفين/ات، وهذا بيأخذك لسؤال طيب المبادرات المحلية، هي حلوة، لأنها مو منظمة، هي هيك خلقت لتعمل خدمة، وإذا بدها تكمل أو ما تكمل راجع للناس يلي عملوها، فرضوا “مكتب المنظمات” عليهم إنه يكون عندهم هيكلية وأوراق إدارية لإغراقهم بالعمل الإداري، كان مطلوب الإفصاح عن الجهات الداعمة والميزانيّات التفصيليّة، تقديم الأنشطة الشهريّة، وبيبعتولك موافقة على بعض الأنشطة أو نشاط. على أساس شو؟ طبعاً المعايير ما منعرفها، مع شوية خطوط حمراء.”  

خطوط الهيئة الحمراء 

 

أما الخطوط الحمراء كانت من بعد فرض السلطة العسكريّة والمدنيّة واضحةً وصريحةً وغير قابلةٍ للنقاش، مثلاً ممنوع العمل تحت أي مسمى مرتبط بالعمل الديمقراطي، الانتخابات أو الجندر، حتى استخدام المصطلحات كان ممنوعاً تداوله في أي جلسة عمل أو مؤتمر، الانتخابات بشكلٍ خاصٍ كانت ذات حساسية لحكومة الإنقاذ لأن في ذلك الوقت كان هناك “بصيص أمل” لتجربة ديمقراطية لانتخاب المجالس المحلية في حلب، ولكن كسلطة أمر واقع لم يكُن أي نشاطٍ توعويٍ لأهميّة الانتخابات مرحباً به وكان يتعرّض للقمع، لأن حتى الدور التوعوي كان مرفوضاً من قبل حكومة الإنقاذ ومن خلفها هيئة تحرير الشام “لأسباب عقائديّة” بحسب ياسمين، وهنا أقف لأسترجع التاريخ القريب لعملية تعيين أحمد الشرع رئيساً لسوريا للمرحلة الانتقالية بعُجالة، وكذلك الأمر لكل الهيئات والأجسام الحكوميّة التي انبثقت عن الحكومة الانتقالية، لا مكان لأي عملية ديمقراطية بحجة أن البلد ليس جاهزاً بعد لخوض الانتخابات وهي عملية تحتاج تحضيرات، قد يكون هذا منطقياً ومفهوماً، ولكن ما حصل في المناطق التي سيطرت عليها هذه المجموعة لا ينذر لا بالخير ولا بالتغيير. 

خلص تقرير لمؤسسة سوريون من أجل الحقيقة في ٢٠٢٤ ، ركز على عمل ناشطات متخصصات في دعم النساء، منهن عاملات في منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال تمكين النساء في سوريا ودعمهنّ، ومنهنَّ إعلاميات تملكن معرفة وخبرة في عمل المنظمات النسائية والنسوية ومنهنّ محاميات ومستشارات قانونيات مختصات، إلى أن هنالك عدّة مستويات من التحديات التي تواجه العمل المدني المعني بالنساء؛ يبدأ التحدّي الأول من مستوى الأسرة والمجتمع اللذين، ما زالت الذهنية التي تسيطر عليهما، لا تعترف بالمساواة الكاملة بين الرجال والنساء في مجال العمل وغيره من مجالات الحياة الحيوية، بينما يكمُن التحدّي الثاني في القيود التي تضعها المؤسسات الدينية ورجال الدين والتنظيمات الإسلامية في المنطقة على حركة النساء ولباسهنّ وحرياتهنّ الأساسية، وتنتقل هذه التحديات لمستوى أعلى وهو السلطة العسكريّة والسياسيّة التي تحكم المنطقة وتهدد العمل المدني والحقوقي وتفرض قوانين وأنظمة تقيد العمل الموجه لتمكين النساء بشكلٍ خاص. 

تضييق وجود النساء في الفضاء العام كان من  مهمات جهاز الحسبة النسائي، وجاء بتسمياتٍ متعددةٍ كما ذكرتُ سابقاً، ولم تستطع ياسمين التحقق في حال كان الجهاز وقتها تابعاً للحكومة أم هي مبادرة، وظلَّت ضبابيّة تشكليه وتبعيّته من عدمها لحكومة الإنقاذ حينها غير واضحة لياسمين، تضيف “بكل الأحوال كان مبرر وجود هيك جهاز لأنه يتناسب وطبيعة السلطة الموجودة”.

 

النسوي والديمقراطي غير مرغوب

بالعودة لعام ٢٠١٨، أسّسَت ياسمين مع ناشطات وصحفيات ومعلمات وغيرهن من المعنيّات بالشأن العام من منطقة ريف حلب الغربي مبادرةً نسويةً لدعم جهود الانتخابات للمجالس المحلية، بعد أربعة أشهر من تأسيس المبادرة دخلت هيئة تحرير الشام لريف حلب الغربي ومع دخولها واستلام حكومة الإنقاذ “خلصت فكرة الانتخابات، لأن الإنقاذ صارت تلعب الدور الرئيسي في حوكمة المنطقة، وصار يتم تعيين المجالس وليس انتخابها” تقول ياسمين.

بدأت أزمة الهوية لدى المبادرة  تظهر في تلك الأثناء بسبب قوى الأمر الواقع، لأن فكرة المبادرة كانت مُتمركزة حول  تفعيل ودعم وجود النساء في الشأن العام والانتخابات بشكلٍ خاص، مع سيطرة الهيئة واستلام حكومة الإنقاذ للعمل المدني انسحبت العديد من العضوات بسبب التضييق والمضايقات التي كانت تتعرض لها التجمعات والمنظمات النسوية، اعتقد البعض من الناشطات أن الاسم المتضمن كلمة ” النسوي” غير مناسب لتلك المرحلة، وبعد نقاشات لإيجاد حل ومع استمرار الانسحابات وجدت ياسمين نفسها مع عدد قليل ممن استمرَرنَ بالعمل وبدأن بالنوسّع مرة أخرى رغم أنهنّ شعرنَ بتناقضٍ كبير بين الحلم الذي أرَدنَه وبين الواقع، تمكنَّ حينها من العمل من مركز في مدينة الأتارب حيث استطعن خلق مساحة نشطة فيها مكتبة ومكان للطلاب للدراسة وللاجتماعات والأنشطة واستمررن بالعمل على موضوع التوعية بالانتخابات أو الدستور الحساس للجندر رغم إدراكهنّ أن ذلك ليس ممكناً في ظلّ تلك الحكومة ولكن إيمانًا منهن بضرورة الاستمرار بالعمل التوعوي. 

لكن ذلك لم يدُم إلا لبضعة أشهر، حيث استُدعيَت ياسمين لمكتب المنظمات التابع للمجلس المحلي، بعد أن حاولت تفادي المواجهة ومقاومة الخضوع للاستدعاءات “الودية”، الموافقة على الذهاب لاجتماعٍ مع مسؤولي مكتب المنظمات له تبعات، تقول “كان بدهم جزء من تمويل المنظمات والمبادرات، هيك كان العُرف العام، يعني كانوا ياخذوها كضرائب ويسموها أتاوات”، ولسدّ الفراغ في دفع ضرائب مفتعلة، كان المجلس المحلي يعطي المنظمات حجج لتبرير دفعها أمام الداعمين بتغطيتها ك فاتورة مياه “ما يقارب ٢٠ دولار أمريكي” مرسلة من المجلس المحلي، وهو مبلغٌ كبيرٌ باعتبار أن المياه كانت تؤمَّن من قبل منظمات بشكلٍ مجانيّ، تفسر ياسمين فرض الأتاوة على المنظمات بقولها ” شغلتين: الأولى هي حالة الفرض والتقييد العام اللي بدهم يعملوها، والثانية، أعتقد كانت العقلية إنه مهم الاستفادة من الجميع، بالإضافة إلى أنّ راتب المُقاتل العادي وقتها كان حوالي ال٢٠-٢٥ دولار أمريكي”،لاكان الدفع بالنسبة لها مشكلة لأنه تورُّطٌ في سلوكٍ فاسد، وفي حال عدم الدفع، كان أيضاً مشكلة لأن المضايقات كانت تزداد على المنظمات والأفراد، من منعٍ للتحرك في المنطقة أو من تنفيذ النشاطات، أو تهديدٍ لأمنهنّ وسلامتهنّ على سبيل المثال، ولابد من التنويه أن مبلغ الأتاوة كان يُفرض حسب حجم المؤسسة وتمويلها، كانت الأتاوة تصل من بعض المؤسسات الإغاثية إلى الحصول على حصة من السلل الغذائية التي كانت توزعها على الأهالي، أو تأمين سكن، وكانت تُعطى للمقاتلين حينها. 

غادرت ياسمين سوريا بعد سلسلةٍ من التهديدات الأمنيّة والتهديدات عبر الفيسبوك في عام ٢٠٢٣، سبق ذلك استدعاءاتٌ من المجلس المحلي، وترافَقَ  مع ضغطٍ من العائلة وبعد توقيفٍ متكرر ومتعمَّد على الحواجز والتدقيق على أدقّ التفاصيل مثل تغطية اليدين، والذي هو دورٌ لا تلعبه الحواجز عادة، كل ذلك أعطى ياسمين دلالاتٍ على أن التصعيد قادم، خاصةً بعدما تعرضت الناشطة نور الشلو للاعتقال والتعذيب وبعد أن أصبحت سجون “الجولاني” مثالاً للترهيب، وخروج المظاهرات بشكل متواصل ضد هيئة التحرير وزعيمها في إدلب

 

أصبح الاستدعاء للتحقيق معلناً وانتهت فترة الاستدعاءات “الوديّة “، وأصبح التدخُّل بفرض الترخيص على المبادرة  أمراً واقعاً، متضمناً الكثير من الأوراق منها براءة ذمة لكل من تعمل ويعمل مع المبادرة، موافقات أمنية، تراخيص لكل شيء ضمن المساحة التي تنشط بها المبادرة، و كان التركيز على حذف كلمة نسوي من اسم المبادرة، مرة أخرى لم تترك هذه السلطة فراغاً ورائها، اقترح المسؤولون بعض التسميات النسائية وتجنب استخدام كلمة نسوي.

بعد إعطاء الناشطات في المبادرة إما الاختيار بين التسميات، التي لا تعكس أي منها رؤيتهنّ الاستراتيجية، أو عدم الحصول على ترخيص، دخلنَ في سِجال بين موافقاتٍ على قبول التغييرات المطلوبة وبين معارضاتٍ لفرض هويةٍ نسائيةٍ بدل نسويّة على المبادرة واعتبارها تنازلاً جوهرياً، لم تكن النقاشات بحسب ياسمين سهلةً خاصةً بعد تلاعُب مكتب المنظمات بالقرار بشكلٍ غير مباشرٍ بأنه سيكون محزن عدم قبول التغيير وعدم الحصول على ترخيص بسبب قرارهنّ، مذكّرين أنها المبادرة الوحيدة المعنيّة في مشاركة النساء السياسية في المنطقة وبالتالي تحميلهنّ عبء التخلي عن النساء في حال لم يقبَلنَ بالتغيير. 

وبالتالي كان الابتزاز العاطفي أحد الأدوات في هذا المثال لتعطيل العمل المدني النسوي، كثيراتٌ انسحبنَ ونشأت بعض المشادات وتم تناسي أن جذر المشكلة هو عدم إعطاء الترخيص للاسم المتضمن كلمة نسوي بالأساس. تقول ياسمين أنهنّ قبلنَ بالتغيير لسلامتهنّ وحتى يستمررنَ بالعمل بالإضافة إلى أن هذه السلطة لم تعُد قوى أمر واقع بل أصبحت الحكومة. 

 

في تلك الفترة كان الخطاب الديني تجييشياً ضد الناشطات النسويات، تقول ياسمين متهكمة “يعني كالعادة، لأنه نحن “النسويات والناشطات” نهدم قيم المجتمع وبدنا حالات الطلاق تزيد وبدنا النسوان تعمل مساكنة ويصير عنا مثليين جنسيين بالمنطقة…إلخ”. وتضيف أن كثيرات من الناشطات والعاملات في الشأن العام كان يتم تهديدهنّ وابتزازهنّ وإرسال رسائل سب وشتم واستهزاء من أرقام مجهولة خاصةً أن أي تواصل من مكتب المنظمات كان يتم عبر الواتس اب وبالتالي انتشار رقم الناشطة واختراق خصوصيّتها كان ممنهجاً لقمعهنّ بحسب ياسمين. ولم يكن هناك آلية لتقديم شكوى، بالإضافة إلى أن اللجوء إلى السلطات حينها كان توريطاً أكبر لأن الناشطة ستُلام لوجودها بالفضاء العام وبالتالي تحميلها مسؤولية الاعتداء على خصوصيّتها. 

من اللحظة التي انطلقت فيها تصريحات عائشة الدبس بدأت مخاوف ياسمين، لأن تلك التصريحات تعكس صورة الحكام الجدد بتاريخهم القمعي والإجرامي الطويل، بدليل السجون الخاصة بهم في إدلب وريف حلب الغربي، الأيديولوجيا الجهادية التي تتسم بها هذه المجموعة والتي تثير الخوف لأنها بالضرورة، قامعة للنساء وبيدٍ من حديد، وتتعاظم هذه المخاوف بالنظر إلى السلطة والمساحة التي تمتلكها الهيئة اليوم بشكلها كحكومة انتقالية اليوم في سوريا، تنهي بقولها: “أنا ما بوثق فيهم شخصياً وخصوصاً بسبب سلسلة الاغتيالات اللي صارت مع ناشطين مهمين كتير وناس صحفيين وصحفيات قتلوهن وعذبوهن، بقول رح يتكرر هذا الشي إذا هنّ ضلّوا على رأس السلطة، رغم كل الادعاءات اللي عم بيطلع فيها “الجولاني” و بيقول إنه إحنا بدنا نحمي حقوق الجميع، هو لليوم ما قال كلمة ديمقراطية، ويلوم الأفعال الفردية لحالة الانفلات الأمني”، تضيف ياسمين “هو كذاب، هو بيعرف الناس إذا عم تتنفس شو عم بيصير لأنه هو استخباراتياً أبداً مو سهل، ماني متفائلة بهالحكومة حتى لو كانت انتقالية، وبرأيي هي ما رح تضل انتقالية، حالياً هي لثبيت سلطة ونفوذ لأن عنده الشرعية والدعم من الفصائل ويلي عندها تاريخ من الانتهاكات.”

منذ الثامن من كانون الأول ٢٠٢٤ يوم هروب الأسد، ووصول الجولاني وميليشياته لحكم سوريا، لم يحصل ما يناقض تجربة الهيئة السيئة في إدلب، وكل المراجع في فهم وتفكيك عمل هيئة تحرير الشام ووجهها المدني المتمثّل في حكومة الإنقاذ سابقاً والحكومة الانتقالية اليوم، تؤكد على منهجية الهيئة  في إعطاء أولوية لبسط سيطرة عسكرية تحت أي ثمن ومن ثم كسب شرعية من الأهالي ونيل دعمهم من خلال تقديم بعض  الخدمات، هذه الشرعية وصلت حدَّها في شهر آذار بتطوّع العديد من السوريين والسوريات في تبرير المجازر في الساحل السوري ضد العلويين على يد فصائل عسكرية أجنبية وسورية مرتبطة بالحُكام الجُدد، لا شك أن الهيئة اليوم بشكلها الانتقالي المدني تسعى جاهدةً لتقوية مفاصل الحوكَمَة واستبدال الطاقم القديم في مؤسسات الدولة بحرسٍ جهاديٍ مُقرَّب، واللهث لتقديم بعض الخدمات لإسكات الأهالي وخداعهم بأن الظروف أفضل مما كانت عليه. 

نود مقابلتك شخصيًا أو عبر الإنترنت

انضمي لنا