يعرقل الاستعمار والاحتلال نمو وتطور ونجاح الحركات الاجتماعية، ويظهر ذلك جلياً في خلق الحاجة لصب جميع جهودها باتجاه قضية واحدة مفصلية وعظمى وكارثة إنسانية كبرى يخلقها الاحتلال، وتدني قيمة حياة الفرد في الوعي الجمعي أمام كثافة الإجرام الصهيوني مما يجعل كل جهد آخر تجاه أي قضية أخرى يبدو منفصلاً عن الواقع، ونفهم هذا الأثر بوضوح أكبر إذا ما فكرنا فيه كسلسلة ممتدة من الجرائم عبر تاريخنا المعاصر عرقلت ولا زالت تعرقل بناء ونمو أي مشاريع وطنية تحمل قيم العدالة الاجتماعية في المنطقة، وبالتالي تدعم استمرار العنف المجتمعي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، فحين نقرأ الخط الزمني لتاريخ منطقتنا نجده زخماً بالجرائم الصهيونية التي هزت وعي الإنسان العربي وهزت حركاته الاجتماعية وقدرتها على الاستمرار بالعمل على القضايا التي أنشئت من أجلها.
قدمنا في التقرير الماضي قراءة لتفاعل كل من المجتمع والإعلام مع جرائم قتل النساء نستكمل في هذا التقرير قراءاتنا وننطلق فيها من أثر الاستعمار على رصد جرائم قتل النساء، ذلك أنه بدا واضحاً في الشهرين الأخيرين، وهو ما يعيدنا إلى فهم قضايانا بشكل متداخل، والنظر إلى حراكاتنا تجاه “القضايا الاجتماعية” كحراكات عابرة للحدود تنمو في مواجهة الاستعمار الذي يعرقل وجوده عملها وتقدمها ويجهض مكتسباتها بشكل مباشر وأشكال أخرى غير مباشرة.
نستعرض في هذا التقرير حصيلة جرائم قتل النساء في الأردن ونتحدث عن أهمية الدور التوثيقي للإعلام في متابعة هذه القضية، كما نتأمل في تراجع هذا الدور في الشهرين الأخيرين – بعد السابع من أكتوبر – وفي الجزء الأخير من التقرير نتحدث عن تأثير الإجراءات والأحكام والقوانين على جرائم قتل النساء.
حصيلة جرائم قتل النساء لعام 2023
شهدنا في الأردن منذ بداية هذا العام وحتى تاريخ 11.12.2023 ، 32 جريمة ومحاولة قتل قائمة على النوع الاجتماعي ضد نساء وفتيات بالإضافة إلى تسع حالات انتحار، إذ فقدت 26 امرأة وفتاة حيواتهن واقتربت 17 امرأة وفتاة من الموت وعشن خوفه، ارتُكبت معظم هذه الجرائم على يد أفراد من العائلة من أزواج وإخوة وآباء فضلاً عن جرائم الرفض التي ارتُكبَت على يد أزواج وخاطبين سابقين وطالبي خطبة لم يتقبّلوا الرفض، تعددت وسائل القتل وتفنّنَ منفذوها بأشكال الأذى والتعذيب فتراوحت بين الطعن والحرق وإطلاق النار وتقطيع الجسد والضرب حتى الموت، وأتت كل هذه الجرائم كمحصلة لسلسلة من العنف الذي سبقها.
الإعلام وتوثيق جرائم قتل النساء
لا تمثل هذه الجرائم جميع جرائم قتل النساء القائمة على النوع الاجتماعي في الأردن، بل تمثّل فقط ما وصل منها إلى الإعلام ويبقى ما خفي من عنف وقتل أعظم، يلعب الإعلام دوراً أساسياً في قراءة هذه الجرائم ومعرفة مدى انتشارها في الأردن وإمكانية مقارنة نِسبها وأرقامها من سنة إلى أخرى ومن شهر إلى آخر وقراءة العوامل التي تتسبب في ازديادها وتصاعدها، والجدير بالذكر هنا هو أن نقل الإعلام لها وتركيزه عليها قد تناقص ليقارب الاختفاء بعد بدء الاحتلال الصهيوني عدوانه على غزة حيث نشرت الصفحات الإخبارية خبراً عن جريمة واحدة بتاريخ 6.12.2023 فيما كان الخبر الذي يسبقها بتاريخ 4.10.2023، وهو أمر مفهوم – ولا يعفي من المسؤولية- أمام كثافة الإجرام الصهيوني، لكنه يضعنا أمام سؤالٍ مشروع عن أثر الاستعمار وجرائمه، لا فقط تجاه حياة الشعوب التي تعيش الاستعمار المباشر ولكن أثره أيضاً في الحركات الاجتماعية والعمل على القضايا “المجتمعية” الأخرى التي قد تبدو منفصلةً عن السياق الاستعماري في دول المنطقة الأخرى.
عدسة النوع الإجتماعي ضرورية للتصدي لجرائم قتل النساء
لا تُعفي الإشارة لدور الاحتلال سابق الذكر، مؤسسات الدولة من مسؤولياتها وضرورة استخدام عدسة النوع الاجتماعي للتصدي لهذه الجرائم، فإصرار الجهات الرسمية على احتجاز النساء المهددات وترك من يهدد حيواتهنّ حُرّاً طَليقاً دون رقابة وتسليمهن إلى القاتل المحتمل بمجرد توقيعه تعهداً ما زال يودي بحياة الكثير من النساء كل عام.
من المهم أيضاً تفادي أن يصبح هذا الاحتجاز دافعاً لمزيد من الجرائم كما حدث في الكرك في الخبر الذي نشر بتاريخ 31.8.2023 عند إلقاء القبض على امرأة قامت بالإجهاض وحجزها إدارياً بحجة حمايتها ومن ثم تسليمها بعد حوالي شهر لشقيقها بعد توقيعه تعهداً والذي قتلها بـ 13 رصاصة ثم سلم نفسه.
وهنا من المهم أن ننتبه لأمرين: الأول هو أن العقاب وحده ليس مجدياً في إيقاف جرائم قتل النساء ومنع حدوثها بل عليه أن يتكامل مع عوامل أخرى منها ما هو اجتماعي ثقافي ومنها ما يرتبط بتطوير منظمة الحماية وجعلها متمركزة حول الضحايا والناجيات ومنها ما يرتبط بالانسحاب التدريجي للعدالة الاجتماعية وخفض العنف المجتمعي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، يمكن ملاحظة ذلك من القصة السابقة؛ فلا يسلم نفسه من كان يردعه العقاب وهو أمرٌ مكرر ففي جريمةٍ أخرى حدثت في عمان نُشِرَ عنها بتاريخ 22.5.2023 قام رجلٌ خمسينيّ بطعن زوجته وقتلها أمام طفليهما ثم قام بعدها بتسليم نفسه، والجدير بالذكر أن هذه الجريمة قد جاءت بعد سلسلة من العنف والاعتداءات، غير أن الضحية لم تتقدم بأي شكوى، ما يعني أنها لم تجد الحل لمشكلتها باللجوء إلى القانون، أو أن اللجوء إليه لم يكن متاحاً، أما الأمر الثاني فهو الوزن الثقافي للأحكام الصادرة في مثل هذه الجرائم وكيف يمكن أن تزيد من جرائم القتل.
فمثلاً ما يزال إسقاط الحق الشخصي شبحاً يلاحق تحقيق العدالة في قضايا قتل النساء والفتيات، إذ يملك هذا الحق في هذه الحالة إما شركاء في الجريمة أو آخرون من العائلة تتعارض مصلحة الضحية مع مصالحهم.
أما الكابوس الأكبر المستمر لهذا العام فقد كان الضرب المفضي إلى الموت وهو ما نخشى تحوُّلَه لأسلوب قتلٍ متكررّ بهدف تخفيف العقوبة فهو لا يأخذ حكم القتل العمد في أغلب الحالات، بل يأخذ أحكاماً مخففةً مع تجاهلٍ لتاريخ العنف بين القاتل والضحية، ففي إحدى الجرائم التي نشر عنها بتاريخ 9.3.2023 لقيت امرأة ثلاثينية حتفها بعد تعرضها للضرب على يد زوجها، وأظهر فحص الجثة أن سبب الوفاة ناتج عن تعرُّض السيدة للضرب بأداةٍ راضَّة بمساحة 40 بالمئة من الجسم، وخلال وقتٍ زمنيٍّ يقدَّرُ بـ 48 ساعة ليتصل الزوج بعدها بالدفاع المدني ويسلم نفسه للشرطة.
لا يهدد الضرب المفضي إلى الموت حياة النساء فقط بل حياة الأطفال والطفلات، الذين واللواتي خسرناهم بحجج التربية وصلاحيات الأهل التي حملت أصنافاً من الأذى وسوء المعاملة ومن الأمثلة على ذلك الجريمة التي نُشِرَ عنها بتاريخ 17.9.2023 إذ قررت محكمة الجنايات الكبرى تخفيض عقوبة زوجة أبٍ ضربت طفلة تبلغ من العمر سنةً وسبعة أشهر حتى الموت، إلى الأشغال المؤقتة 5 سنوات بدلاً من 12 عاماً نظراً لإسقاط الحق الشخصي عنها، وهذا يعيدنا لضرورة قراءة علاقات القوة القابعة خلف العنف والمُشَكِّلة له بدلاً من الاكتفاء بالتعامل مع الجرائم بصورة فردية وبشكل عقابي بعد وقوعها وتجاهل كل ما سبقها وكل ما يليها.
في الخلاصة جرائم قتل النساء لا تحدث ولا تستمر بصورةٍ منعزلةٍ عن سياقها بل تحدث في ظلّ غياب منظومة حماية فاعلة وتجاهلٍ واضح لموازين القوى الموجودة داخل المجتمع، وفي ظل إضعاف الحركات العاملة على هذه القضايا وإنكار صوتها إما جرَّاء قوى استعمارية خارجية تخلق لنا كوارث إنسانية تجعلنا بعيدات عن العمل لأجل مجتمعات أقل ظلماً وأكثر عدالة، وإما عبر قوى داخلية تتجاهل أصوات النساء واحتياجاتهن وتعمل على تغريب الحراكات الاجتماعية العاملة على هذه القضايا.
يمكنكن/م تحميل التقرير عبر هذا الرابط