الرئيسية 5 الإنتاج المعرفي 5 إلى مناضِلتي الصّغيرة الّتي غيّبتها القذيفة الصّهيونيّة، إلى كاتبتي المفضّلة الشّهيدة رغد النّعّاميّ

read in English

إلى مناضِلتي الصّغيرة الّتي غيّبتها القذيفة الصّهيونيّة، إلى كاتبتي المفضّلة الشّهيدة رغد النّعّاميّ

مارس 10, 2025

(509) خمسمئة يومٍ وتسعة أيّام، هذا هو العمرُ الّذي انقضى بعد أنْ خسرناكِ، وبعد أنْ غيّبتكِ القذيفة الصّهيونيّة عنّا في حرب غزّة الأخيرة بتاريخ 16/10/2023، وقد مُلِأَ هذا العمر بكلِّ محاولاتنا لإبقاءِ الماضي الّذي عشتيه ذكرى ممتدة نكتبُ عنها ونستحضرُها، وخلا من أنْ تظلّي بيننا، من كتاباتكِ الجديدة، من رسائلكِ وتسجيلاتكِ الصّوتيّة الّتي تصلني من قلبِ غزة وأحتاجُها بشكلٍ خاصٍّ، من بهجتكِ، وسخريّتكِ من هذا العالم.. كم أحتاج أنْ نسخرَ منه معًا! واليوم كلّ شيء مدعاة للسّخريّة المُرّة، تلك السّخريّة الّتي يطرقُ ساخرُها بالعويل بعد ممارستها، وهذا العالم يا حبيبتي قاسٍ وشرسٌ، يستشرسُ في أشكالِ موتنا، ويُعطينا أسبابًا لنكتبَ قصصًا ملحميّةً ورثاءاتٍ طويلة وغير كاملة ومترعة بالنّحيب، كغيابكِ.. 

يصادفُ اليوم، اليوم العالميّ للمرأة، هذا اليوم الّذي تأتّى من آلامِ النّساء ونضالاتهنّ، من رفضهنّ، من صرخاتهنّ، من أنينهنّ المكبوت، وأنتِ مِن أكثرِ مَنْ عرفنَ مآسي النّساء، وقد كان لنا مأساتيْنا، وكنتُ أنا أكثرُ حظًّا في نجاح محاولاتي للتّنصّلِ من المأساة الّتي يردفُها النّظام الأبويّ إلى حياتي، وكنتِ أنتِ أكثر نضالًا واحتمالًا وشجاعةً وغضبًا وحزنًا، وكنتِ ورغم الألم مقاوِمةً عنيدة لِما يفرضه الواقع، فلا تقبليه، وتصنعين لذاتكِ نجاتَها وعالمَها.. وفي عالمٍ أنتِ به امرأة محاطة بجدرانِ الأبويّة وليس لديكِ أيّة امتيازات؛ تكونُ خياراتنا في النّجاة أو الخلاص ضئيلة ومحدودة وغير فاعلة، كالكتابة عن القهر وتمنياتنا في المناص منه، كتمنّي الهرب ومحاولات ركوب الخيال في صنعِ حياةٍ نحلم بها ولن نعيشها، أو تمنّي الفناء، وكنتِ تَرجينَ الموت كنهايةٍ للآلام، ولكنّكِ قبل الحرب كنتِ قد صنعتِ لنفسكِ أسبابًا للحياة، وعشتِ تحاولين، وأذكّر رفضكِ للموت لأوّل مرّة حينما اشتعلتْ الحربُ في غزّة، حينها قلتِ لي: “كلّ اللّي بدّي إيّاه تخلّص هالحرب وأرجع للرّوتين اللّي كُنتْ أتأفّف أنّه مش عاجبني.”! فكما تسرقُ منّا الأبويّةُ أحلامنا وأمانينا، يسرقُ الاحتلال أعمارنا وأقدارنا ويومنا التّالي، وقد سلبكِ منّا، بضغطةِ زر، بغارة موجّهة نحو بيتك، نحو حلمك، ونحو محاولاتك للبقاء، وكنتُ أعتقدُ في داخلي أنّكِ لن تموتي، وبأنّ الرّدمَ فوقكِ لن يقتلكِ؛ لأنّكِ عنيدة، وقوية، وطامحة، ولك الكثير من الخيالات الّتي لم تتحقّق، وبقيتِ تحتَ الرّدم يومًا، ويومًا كاملًا نرجو فيه نجاحك في صرعِ الموت.

ولكنّني حينما آلمُ لفقدكِ أعودِ لقراءة ما كتبتِ يومًا: “أودّ لو أفتعلُ ما يصنعُ منّي نهايةً تعيسةً،
وبدايةً مبهجة..
أنْ يكونَ موتي بدايةً لتغييرٍ حتّى لو كان بسيطًا..
ليكنْ تاريخ موتي هو تاريخي الجديد”.، أقولُ في ذاتي كم أنّكَ قد تكونين نلتِ ما أردتِ! الموتُ لبداية مُبهجة، السّابع من أكتوبر الّذي يشبه آلامنا ونضالنا في وجه الألم، الموتُ لتغييرٍ حتّى لو كان بسيطًا! فأتداركُ الأنا الّتي تقتحمها خسارتكِ، فأحترمُ موتكِ وشهادتكِ! 

أكتبُ إليكِ اليوم، لأنّكَ تجسيدٌ للنّضال النّسويّ في عقلي، ولأنّ بثينة العيسى كاتبتكِ المفضّلة، وأنتِ هي كاتبتي المفضّلة مهما كنتُ لا أعلنُ الأمر، ولأنّكِ ورغم أنّكِ تصغرينني بعامين، إلّا أنّكِ قد علّمتيني الشّجاعة، وكيف أنّ على حياتي أنْ تكونَ نضالٍ مستمرّ لأجلِي ولأجلِ كلّ النّساء المقهورات، ودون أن تعرفي علّمتيني أنْ أحبّ نفسي وأنْ أفتخرَ بكلّ ما أصنع، وأنْ أقدّر يومي، وأنْ يشعرَ العالم بالتّقصير؛ لأنّه لا يقدّرنا كفاية، ولأنّكِ في كلّ مرّة كنّا نتحدّث فيها كنّا نُسخّفُ من العادات والعيب، وننكشفُ على رفضنا الصّارخ لكلّ القيود الموجودة، ولأنّكِ شجاعة، وجريئة حين الكتابة، لا تُجمّلين، ولا تنتظرين من الآخرين أن يقبلوا ما تكتبين، أكتبُ إليكِ؛ لأنّكِ امرأة حقيقيّة، لأنّك تعرفين ألم النّساء، وتعرفين ضجر اللّيل حينما ينكبُّ على الذّوات، لأنّك كنتِ تمارسين العاديّ في الخفاء، ولأنّكِ ككلّ امرأة، مُثقلةٌ بالخوف والكثير من الآمال والأمنيات، أكتبُ إليكِ؛ لأنكِ كنتِ على قدرة للتّقزّز من الواقع، ولأنّكِ لتسهيلِ الأمور كنتُ تصنعين النّكات حول الرّجال الأبويّين، ولأنّك كنتُ تُصرّحين عن الآه أحيانًا وتَكبتينها أحيانًا أخرى، ولأنّكِ ممكنة، ولكي تعيشي البسيط من الحياة صيّرتِ نفسكِ دبلوماسيّة للتّعاطي مع الأحداث، ولأنّكِ نسويّة وإنْ لم تتشبّثي بهذا المسمّى كهويّة، ولأنّني أحبّكِ، واعتذارًا من الأوقات الّتي غيّبتُكِ فيها عن فؤادي وكتاباتي، ولأنّكِ الهدفُ الأوّل في الكتابة حينما تُطلبُ منّي، ولأنّني أفتقدُكِ، وأحتاجُ لصوتكِ ورسائلكِ والكثير من كتاباتكِ الّتي تلعنُ الوضع الآنيّ. 

“ما زال هُنالك العديد من الأشواطِ أمامنا حتّى نرى أنّنا نعيشُ في عالمٍ أقلّ بؤسًا وأكثر تحضّرًا، ما زالتِ الفتياتُ تدخّنُ انتقامًا من النّظامِ الأبويّ، وترى أنّ الحَمّامَ هو أكثرُ أماكنِ البيتِ أمانًا، وأنّهنّ العبءُ الأكبر على كاهل الوالدين..” هذا النّصّ المقتطع من إحدى كتاباتكِ التّحرّريّة الّذي يصفُ هذه الحضارة الإنسانيّة الّتي تتدّعي العدالة والمساواة ولا تُطبّقهما ولا تتبّناهما. اليوم، يحتفي بنا العالم، وكأنّنا لا نُعاني القهر في كلّ أرجاء العالم، تتعامل معنا الأنظمة يا حبيبتي على أنّنا قد حصلنا على أكثر ممّا كنّا نتمنّى من الحقوق والحرّيّات، وتحوّلتْ نضالاتنا إلى سلع، إلى يوم يحاولُ العالم تفريغه من معناه، إلى عروض مغرية؛ تجعل الواحدة تشكرُ ربّها أنّه خلقها امرأة، مثل: أن نحصلَ في يوم المرأة لكوننا نساء على 4 دوناتس مجانيّة إن اشترينا 8! ما زال النّظام الأبويّ حاكمٌ أساسيّ في حيواتنا، وجلّادٌ لكلّ ممارساتنا، ما زال هنالك الكثير من النّساء الّتي تموت لأنّها خُلقتْ على هيئة المرأة، وما زال الاحتلال جزءٌ من تعميق معاناتنا، والرّأسماليّة أساسٌ في قهرِنا، وفي هرم الطّبقيّة، المرأة الفقيرة والّتي لا تملكُ أيّة امتيازات هي الطّبقة الأخيرة، ما زالت الكدمات جزءًا من ملامحِ الصّديقات؛ لأنّهنّ تمرّدنَ للحصولِ على العاديّ، وما زلنا نمارسُ العاديّ خائفات ومواربات له.. أكتبُ إليكِ؛ لأنّني مسؤولة عن منع الاحتفاء في هذا اليوم، ولأنّ هذا اليوم تذكيرٌ لنا لنناضل، لأنّنا لو كنّا لا نحتفي، ونواجه العالم كما يجب في تفريغه لمقاومتنا النّسويّة من معناها، لما غيّبتكِ القذيفة! أو على الأقلّ كي لا تموتي في محاولات العالم لجعل كلّ شيء ماديّ ومُسلّع، أكتبُ إليكِ؛ لأنّكِ تذكير بأنّ مناهضة الاستعمار قضيّة نسويّة، ولأنّ هذا اليوم يوم غضب وبكاء طويل، لأنّنا ما زلنا نعاني، ولأنّ قهرنا قائم، الأبويّة قائمة، الاحتلال الصّهيونيّ قائم، والرّأسماليّة قائمة، ومهمّة نسويّتنا أن نستمرَّ في مقاومتنا أمامهم، ليأتي يومٌ نحتفلُ به حقًّا، لنصير أقرب من عالمٍ أقلّ بؤسًا وأكثر تحضّرًا، عالم لا تموتُ به النّساء والرّجال والأطفال بفعل القذيفة.

وداعًا يا رغد، شكرًا يا رغد، الرّحمة لروحك، هذا يوم لتجديد نية المواجهة والاشتباك.

مُزيّن زاهدة

نود مقابلتك شخصيًا أو عبر الإنترنت

انضمي لنا