read in English

إلى جــدتي

مارس 7, 2025

الغائبة الحاضرة في ذاكرتي، التي جعلتني أنجو بإرثها ورواياتها عن الوطن في حرب الإبادة. إنّ حفيدتك التي داعبتِ أصابعها بحكايا صمودك، وحكايا الأمهات اللواتي تحمّلن مشاق الحياة حينما جلدهنّ الاحتلال عنوة على حاجز لا يعترف بالإنسانية، ودفعهنّ قسراً لترك مدنهنّ وقراهنّ، وكيف تغلبْنَ عليه بإصرارهنّ على العودة دائما إلى بيوتهنّ، ومساحتهنّ الخاصة مع أطفالهنّ رغم كل التحديات التي مارسها الاحتلال لكي يصعّب الحياة عليكم،  لو كنتِ تعلمين أنّ هذه الحكايات كانت زادي وقت الإبادة لافتخرتِ بي ولعلمتِ جيداً أنّ مقولة “الكبار يموتون والصغار لا ينسون” حقيقة لا مجال للشكّ فيها، وأنّ ذاكرة الأمهات حيّة دائما تمدنا بطاقة الحياة وتجددها. هل تعلمين يا جدتي أنّه حينما فقدتُ البيت ومساحتي الخاصة وكل مقومات الأمان في الحرب تذكرتُ نكبتنا الأولى عام 1948م التي كنتِ شاهدة عليها، تذكرت كيف استندتِ على نفسك في الخيمة وأعدتِ لملمة الأشياء من حولك، وانغمستِ في طين الوحل تسمهدين قوت أبناءك، كيف طهوتِ العدس ألف مرة بألف طريقة، كيف أعدتِ ترقيع الملابس لكي تصلح صيفا وشتاء في عراء المخيم بعدما كان البيت في يافا يعجّ بكل شيء وفق روزنامة الفصول، كيف داويت الأوجاع بالطب الشعبي، ونقلتِ لي حكايا “الداية” التي ولدّتْ النساء في الخيمة بأقل الإمكانيات، وكيف كان الكل يصطف على الطابور الذي قلتِ عنه “طابور الأوجاع” الذي خدش كرامتكم، لكنّ الكل كان لا يملك شيئا إلا أن يصطف “نساء، ورجالا، كبارا، وصغارا” ينتظر حصته من الماء، أو دوره لقضاء الحاجة أو حتى حصته من الأكل، وكيف مارستنّ الفرح والحزن بعيدا عن الوطن، حتى حينما غدا المخيم مساحة بعيدة عن عراء الخيمة ابتكرتُنّ يا جدتي أنتِ ونساء المخيم تفاصيل جديدة للبيت، وللمطبخ، وللعمل أيضا.

كل ذلك حدث مرة أخرى يا جدتي، لكن في العصر الحديث، وأصبح حديثك عن “كنّا نغسل على أيدينا من شقشقة الصبح”، “نطلع نلم حطب لنطبخ”، “نولع الكازية لنضوي”، “نحط الأكل في النملية حتى يضل أطول فترة ممكنة وما يخرب”..، معاداً أنقله أنا بصوتي الحاضر ليس كراوية للحقيقة وكحفيدة شاهدة غير مباشرة على النكبة الأولى بل كحفيدة وامرأة وضحية جديدة على نكبتنا الثانية التي جعلتني أتفقد وجعك مرة أخرى في تفاصيل الحاضر الذي نقلني إليك بعدما سلب منّي كل شيء يمنحني الكرامة الإنسانية، ويمنحني كامرأة مساحتي الخاصة، عدتُ إليك يا جدتي لأنتحب بكل جوارحي وأقول لك “لماذا دوماً ندفع ضريبة ليست من صنيعنا؟! ولماذا يحدث ذلك كله؟!”

لكن يا جدتي رغم هذا النحيب والوجع ما كنتُ أعلم أنّ تلك القصص التي رويتيها جعلتني امرأة قوية أواجه إعصار الحرب التي أعدمت معها ملامح ومقومات الحياة وجعلتها بدائية، وكامرأة في مجتمع يُطلب منها كل شيء من أجل الأسرة، فالبيت بكل تفاصيله من مهامها، تمكنتُ من الالتحام، من إعادة الأسرة في النزوح، اكتسبتُ العزيمة وخرجتُ عن الدور المألوف، اصطففتُ في دور التكيّة، وطابور المياه، جمعتُ الحطب وأشعلته أيضاً، حملتُ أوزاناً تتجاوز حجمي الصغير واستطعتُ، طهوتُ أكلات بالمتاح والزاد القليل ليست في منهاج المطبخ الحديث وكانت شهيّة، أعدتُ تدوير الأشياء من حولي، كنتُ قائدة، مدبرة، منجزة وفق تقويم الحرب، فقد فعلتُ الكثير الذي لم أكن أتخيّل يوماً أنّني أستطيع فعله لكنّني فعلتها، والأهم يا جدتي أنّني التحمتُ مع ذاتي وداخلي حينما علتْ أصوات الحرب ودمارها، تفقدتها مثلما فعلتي ومثلما كنتِ تقولين لي ولأحفادك “لمّا ما يسأل عليك حدا اسأل أنت عن حالك”، سألتها يا جدتي جيداً وأدركتُ أنّ السؤال عن ذاتي يعيد البوصلة إلى روحي، ويجعلني أتخطى كل الصعاب. بالأمس القريب كان المجتمع بتحدياته المختلفة هاجسي لكن تعلمتُ في الحرب ومن خلالك يا جدتي وقصصك عن النكبة التي كانت نكبتنا الأولى أنّه يمكننا التغيير مهما كانت الظروف قاسية.

ومازلتُ يا جدتي أروي حكايتنا أينما حللتُ كإرثنا السوي الذي لا يبدده الموت.

نورهان أسعد

غزة -فلسطين

نود مقابلتك شخصيًا أو عبر الإنترنت

انضمي لنا