الرئيسية 5 الأخبار والإعلانات 5 ثلاث ولادات..ومخاض عسير اسمه: غزة

read in English

ثلاث ولادات..ومخاض عسير اسمه: غزة

يناير 19, 2025

سفانة أبو صافية

ثريا..بين حَملٍ وأحمال النزوح

الدموع لا ترافق الأحزان الخالصة، إذ يبتلع الوجوم الأيام والتفاصيل مع ابتلاعه الدمع، والوجوم في اللغة: حزنٌ يُسكت صاحبه. 

فكرت بذلك وأنا أستفزُّ الذكرى في دعوتي ثريّا للحديث في أول لقاءٍ جمعني بها، أستدرج الذكرى ويستدرجُها الوجوم، فتتحدث أقلّ مما أريد أن أسمع. أحاول في وقتٍ لاحق.. الذكرى مثقلةٌ بالتفاصيل، تفاصيل النساء المغلوباتِ في البلاد بعد طغيان الاحتلال. تفاصيل صامتة رغم أن ثريا تتحدث.

كيف يصير الحديث صامتًا إلى هذا الحد؟ هل لأن الحروف خاليةٌ من تشكيلها؟ هل لأن تشكيلها الدمع، ونساء غزّة صرنَ بلا دموع؟ نبدأ -ثريا وأنا- بعد أن غادرها الصمت في تسجيل الشهادة، شهادة المصير المجهول، منذ اليوم الثالث للحرب. تفتح صندوقها الأسود في الحرب.

تخبرني عن بيتها، بيتٌ لعروسين، من هناك تبدأ الحكاية. تبدأ باثنين، يهربان من الموت الذي فاجأ غزّة بأن ابتدأته إسرائيل من مناطق عادةً لا تطالُها الحرب..كما عوَّدتهُم آلة الحرب المتكررة، تتحدث عن منطقة الرمال، عن الفرار داخل الشمال من بيتهما بقليلٍ من الملابس، نحو بيت العائلة. لكن السماء ذاتها في بيتها وشريكها أو في بيت العائلة..سماءٌ ترسل من خلالها إسرائيل احتمال الموت لكل فلسطينيٍّ في غزة.

عدّادُ الأيام يمرّ، تنهي الحرب شهرها الأول ولا زالت حكايتها تتحدث عن اثنين. طعامهما يقلّ، نزوحُهما يتكثّف.. “من بيتٍ لبيت كنا بسبب الإخلاءات” فمن بيت العائلة إلى جنوب القطاع، نزوحًا عبر طريق البحر، لم يحتملا الوضع هناك في الجنوب، قرّرا العودة للشمال، ليس للبيت، فمنطقة الرّمال دمّرها الاحتلال، كانت الوجهة مستشفى الشفاء. تقول: “الشفاء أصعب مرحلة، كنت أنام ع البلكونة بطقم الصلاة، الرايح والجاي بشوفك”. كان الجحيم في الشفاء..حيث الحصار الأول على مشفىً في الحرب، مشفىً اتّخذهُ النّازحون مأوىً لهم. مرضى وموتى وأحياء لا يُصدّقون ما يحدث، واحتلالٌ يطمعُ في غرفة عمليّات المقاومة الموجودة حسب زعمه تحت هؤلاء، وحين لن يجدها، سيخترعها.

استطاع الاثنان ثريا وشريكها الفرار من الحصار المفروض على المستشفى، ذهبا نحو بيت أختها هذه المرة، وهناك في الشهر الثاني من الحرب، الاثنان صارا ثلاثة.

أسألها: كان بدك الحمل؟ “لا ما توقّعت بالمرة يصير حمل، كنت مأجّلة الموضوع فترة أصلًا، بحرب أو بلا حرب ما كان بدنا إنجاب بهاي المرحلة من زواجنا”..أسألها: ليش طيب صار؟ وأترك لها إشارات استفهامٍ مُعلَّبة.. هل بسبب نقص الواقيات الذكرية؟ هل بسبب نقص موانع الحمل؟ هل لأن الاستجابة النسويّة الطّارئة لم تكُن على قدر الإبادة؟ لكنها تنسف الاستفهامات المُعلّبة، بجوابٍ بسيط: “كنت مشتاقة لجوزي..فصار”.

اشتاقت ثريا لشريكها الذي التقته لأول مرّة في منزلٍ مسقوف وفيه غرفةٌ يُقفَلُ بابُها، بعد أسابيع من النوم في أماكن نزوح مكتظّة انتهت ب “بلكونة الشفاء”. هناك الاثنان سيصيران ثلاثة، في إحدى البيوت التي نزحوا إليها، لكنها لن تعلم بذلك، سوى بعد رحلة نزوح جديدة..هذه المرة إلى خانيونس.

مرت ثريا بالممر الآمن مع شريكها وأهله، يدها بيده، ولا تعرف أن ثمّة جنينٌ في أحشائها، تتحدث عن التعب، عن مسار الموت، لا الممر الآمن، عن الصمت المُطبق. تصف الصمت: “ما بتسمعي إلا صوت الحصى تحت رجلين الناس، كل الناس ساكتة، بس صوت الجيش كل فترة بنادي على حدا، واللي بوخدوه بعَرّوه..نادوا على واحد حوالينا، شديت زوجي من إيده وبدون حكي حكيتله: إمشي وبدون حكي فهم عليّا، بهاد الطريق صعب ترفعي راسك أو تلتفتي حتى..إيدهم على الزناد”. 

كل ذلك التعب تبدّد حين اجتمع شملُ العائلة في خانيونس، فوالد شريكها كان أسيراً لدى الجيش في الداخل المحتل. وبعد البقاء في الجنوب هناك عرفت أنها حامل بطفل جاء معها من الشمال..”تأخرت دورتي، جبت فحص الحمل وعرفت إني حامل، كنت بالشهر التاني لما عرفت”.

اسألها عن شعورها، وأنتظر إجابةً مُعلَّبة..أنتظر أن تتحدث عن الندم، الندم على الجنس في الحرب..ثم على الحمل في الحرب، لكنها تكسر علبتي حين تجيبني: “مبسوطة وخايفة وشريكي كان طاير فرح، حتى وقتها قررت إنو نأخر مشاركة الخبر مع العائلة”. وأدرك خللي في فهم الخيارات الإنجابية. 

تقول “كان بدي نأخّر مشاركة خبر الحمل، لأنو الناس بحُزُن، وكان مستشهد قرايب لزوجي، بس زوجي كان كتير فرحان وخبَّر أهله وكتير فرحوا معنا”.. لكن عمر الفرح قصير، حلّت على ثريا متاعب أشهر الحمل الأولى، رغبةٌ بالاستفراغ دائمة، دوار..تضاعفه رائحة النّار، تقول: “كل طبخنا ع الحطب، وريحة توليع الحطب كانت تخليني أستفرغ وترميني بالفراش” وهكذا حلَّ الندم محلَّ الفرح، تقول: “طوَّل الشهر التاني والتالت والرابع وأنا كرهانة حالي وندمانة إني حملت بهيك ظرف وغلَّبت اللي حوالي فيّا”.

لم تكن تسمع عن أخبار العنف الإنجابي التي مارسها الاحتلال على النساء الحوامل والأمهات خلال الأشهر الأولى من الإبادة، ربما هذا ما ترك في قلبها قوةً لتحمُّل المتاعب، لأن الأوصاف كانت ستُضفي ثقلًا مضاعفًا. فلم يكن في بالها سوى خوفٌ واحد سببه سوء المعيشة وهاجسها الوحيد: “ضلّيت خايفة ينزل البيبي”.

الاحتلال مسؤولٌ عن مشاعر ضحايا العنف الإنجابيّ اللواتي استهدفهنّ في الإبادة الإنجابية في القطاع، مسؤولٌ عن كره ثريّا لنفسها في أيامٍ كانت لتكون تجربةً رحيمة، ومسؤولٌ عن ندمها عن حملٍ حدث دون توقّع، ومسؤولٌ عن الخوف من فقد حملٍ كرهت ذاتها بسببه.

وهو الذي جعلها تركض تحت الأحزمة النارية في خانيونس، هذا النزوح مختلف، فقد كانت تعلم أنها حامل، وكانت تعاني صعوبات مرحلة الوحام. تقول: “طلعنا من خانيونس تحت الأحزمة النارية، ما في محل نروح عليه، لقينا حالنا عند مبنى للهلال الأحمر، نمت أنا وأخت زوجي على فرشة، نمت شوي رغم صوت المرضى، كانوا كلهم يتوجعوا وصوت القصف برا، ولما طلع الصبح طلعنا بعد النجاة بأعجوبة لبيتنا جبنا شوية أغراض، ونزحنا من خانيونيس لرفح”.

وهناك.. في رفح كانت الخيمة، الخيمة صعبة على كل النازحين، لكنها أصعب على النازحة الحامل، تتحدث ثريا عن صمت تلك المرحلة، إذ لا تقوم من فراشها، تنام في السادسة مساءً وتبقى في نومها للسادسة صباحاً، لا تُكلِّم أحدًا، يبتلعها الصمت، لا شيء غير التعب، يحاول شريكها إخراجها من حزنها ولكنّ حزنها أثقل من كل المحاولات. تصف لي شكل وحام تلك المرحلة، وهو أغرب وحامٍ أسمع عنه، تقول أن الاكتظاظ بين النازحين كان يحفّز الاستفراغ وكان للاكتظاظ رائحة، تقول: “الناس كتار وين ما تطَلّعي في ناس، ريحة المكان بشعة، مرة استفرغت بين الناس من يومها كرهت أطلع من خيمتي، بس بقطع الوقت بالنوم”. 

لكنه ليس نومًا هانئًا، إذ اشتدّ البرد على النازحين، وأثَّر على ثريا، لأن ملابسها الخفيفة في بردٍ قارس جعلتها مريضةً طيلة الوقت. حتى أنها تقول: “لما صرت بالخامس وعملت إيكو، وشفت الجنين وسمعت نبضه كانت أول مرة بقتنع إني حامل! كل الوقت كنت أحسني عيّانة، بسبب الطقس والأمراض ونزلات البرد وبسبب الوحام الصعب”.

إذن حين سمعت نبض الجنين صدَّقَت ثريّا حملها، وصدّقتهُ أكثر حين بدأت الملابس تضيق عليها، وفي الجزء الأول من هذه المقابلة والتي نشَرَتها تقاطعات في تاريخ (16 يونيو) كانت تُشاركنا ثريّا مشقّة عدم امتلاكها لملابس حمل..وتضيف في حوارات الإعداد لهذه الشهادة: “البُكلة اللي حكتلكم عنها هديك المرة، بتعرفي ضليت أسكّر فيها البنطلون لآخر أيام الحمل”.

حين استفاقت ثريّا من رغبة النوم والصمت، وصدَّقَت حملها، كان هاشتاغ “كل العيون على رفح” ينتشر مثل النار في هشيم مواقع التواصل الاجتماعي، وكان ميعاد ولادتها يقترب. ومعه يقترب الاجتياح البريّ لرفح حيث مكان خيمتها الأخير. وحين أصبح الاجتياح حقيقة، ومع أول أيام التوغل البريّ في رفح، غادرت مع العائلة الكبيرة رفح نحو المنطقة التي أسمتها آلة الاحتلال الإعلامية بالمنطقة الآمنة في المحافظة الوسطى.

تقول: “يوم نزحنا من رفح، نزحنا على بكير مش زي بخانيونس تحت الأحزمة النارية، اجتمعت كل العيلة، كل أعمام شريكي وأهله، وتناقشوا كلهم وقرروا إنو نروح للوسطى” وكان بالفعل النزوح لدير البلح. تضيف: “استأجروا سيارة كبيرة، حطّينا فيها كل الأشياء والخيم، وكل العيلة ركبت مع الأشياء بصندوق الشاحنة، وأنا عشاني حامل أنا وستّه لجوزي الله يرحمها – وقد توفيّت بعد آخر نزوح بفترة قصيرة – قعدنا حدّ الشوفير”.

توغل في الذكريات كما لو مرّ عليها أعوام لا مجرد أسابيع قليلة: “وصلنا بالليل والعيلة اختلفت وصار خلاف، جزء ما بدو يضلّ وجزء بدو يضلّ، واللي ما بدهم ما بدهم لأنو المكان فعلًا بخوف كتير بالليل”. كان القرار البقاء، ومع القرار فتحت ثريا فصل جديد من فصول حملها. 

“خيمة عن خيمة بتفرق” قالها غسان كنفاني في المفاضلة بين خيمة النازحين وخيمة الفدائيين. ففي نكبة سابقة للشعب الفلسطيني، عرفوا التهجير على دفعة واحدة وبالتالي خيمة واحدة ستصير مع السنوات بيت بسقف زينكو. لكن الشعب الفلسطيني اليوم في غزة، اختبر التهجير بالتدريج وعلى دفعات من النزوح المتكرر، إذ لا يوجد في غزة من لم ينزح مرات كثيرة منذ ابتداء الاحتلال حرب الإبادة. وخيمة عن خيمة بتفرق في حياة ثريا، فتقول: “بالزوايدة كتير أحسن من رفح من حيث الخيمة وهون هدوء أكتر، أنا وحامي كان يخليني أتعب من الكثرة في النازحين..لما جينا هون كان الاكتظاظ أقل من رفح. بس خيمتنا برفح كانت أحسن من حيث الحمّام، نحن عملنا حمّام الخيمة بس كان بدو نزلة قوية لأوصله..والمشي كان يتعبني خاصة بالليل والزّنانة شغّالة”. (خيمة عن خيمة بتفرق وكذلك حمّام خيمة عن حمّام خيمة بيفرق).

مع دخولها شهرها التاسع كان لا بد للعائلة من توفير مكان لولادة ثريا غير الخيمة، فكان الانتقال لمخيم النصيرات حيث تمتلك أختها منزلاً يؤوي عشرات النازحين. لكن ثريا لم ترتَح للطرح، فالمكان يتّسع لاستضافتها فقط دون زوجها. وهي لا تشاء أن تلد وحدها، ولا تشاء أن تبقى بعيدةً عن شريكها وهذا يعود لاتفاق بينهما منذ بداية الحرب بأن يكونا في كلّ طريقٍ وخيمةٍ ونزوحٍ معًا “عشان إزا صار إشي نروح التنين سوا، ما بتخيل حدا يصيرله إشي والتاني يعيش” ولكن الميعاد يقترب والحمل يصعُب وحرارة الصّيف تشتدّ في الخِيَم..لذلك اقتنعت بالانفصال المؤقّت، تقول “فعلاً أخذت أغراضي ووصّلني زوجي لبيت أختي، وبس إجى يودّعني وراح انجنيت..ما وصل آخر الشارع إلا لقيتني ماخذة كرتونة أواعيي وبركض وراه في الشارع”.

أتى المخاض على ثريا قبل موعده بأسبوعين، شعَرَت بآلام فظيعة، زارت المشفى صباحًا مع زوجها، لا شيء يقدّمه لها المشفى..هي في مخاض ولكن لا تزال بعيدةً عن الولادة، أعادوها لمنزل أختها، هناك تجرّعت كلّ الوجع، وحين حلَّ المساء كان المخاض في آخر مراحله، “بالليل الإسعاف بطلع، بالنهار لا بدك تروحي لحالك..لهيك رنينا عليهم وإجو أخذوني بالسيارة، وهناك عرفوا إني وَلَّادَة خلص..قعدت ع الكرسي بالأول ما في تخت لأنو، لوقت منيح ضليت عليه..وبعدين أمّنُوني بتخت”.

تبعث في نهاية الحديث صورة طفلها: فتىً لا يشبه الحروب. ويظهر في العاجل أمامي مجزرة في النصيرات، حيث لم تزل في حينها ثريا وطفلها يقضيان فترة نفاسها في منزل يعجُّ بالنازحين.

هنادي..أسئلة الخوف، والولادة قبل النزوح

تصف نورهان ولادة أختها هنادي فتقول: “تجربة ولا امرأة بتتمناها، القصة لما أفكّر أحكيها بحسّ التفاصيل بتتوه منّي وبتوقع، الخوف أثّر على أختي كتير، كنت أضلّ أقوللها: كل شيء بأمر الله ..هوّني على قلبك. مع هيك موقف القَنْص ضلّ يراودها”.

وموقف القنص هذا.. موقفٌ مُتَخيّل، ظلّ يراود هنادي منذ السابع من أكتوبر وحتى ميعاد ولادتها في شهر مارس، ليس فقط هنادي بل وكلّ عائلتها، فقد تكرّر مشهد استهداف الاحتلال للنّساء الحوامل، وصار الخوف من الاجتياح مرتبطًا بالدّرجة الأولى بتكوُّر بطن هنادي، فتكوُّرُ بطنُها المُلاحَظ يجعل احتمالية قنصها عاليةً جدًا لأنّ إسرائيل في طلقةٍ واحدة تقتل اثنين لا واحدًا من الفلسطينيين.

هكذا كانت هنادي، تحمل في أحشائها الجنين، وفي قلبها الخوف، حتى جعلها الخوف تعيش مخاضًا يوميًا، كل يوم يمرّ دون أن تموت تلد نفسها مرةً أُخرى وتعدُّ الأيام المتبقّية على ميلاد جنينها. الخوف كان رفيقها، خافت هنادي وخوفها ترجمته أسئلتها التي كانت تزورها مثل وسواسٍ قهريّ، جعلها تعيش حروبًا يوميةً شخصيّةً داخل حرب الإبادة الجمعيّة. 

أسئلة الخوف: “وين حاولد؟”، “حكون نازحة ولا لأ وقتها؟”، “حيكون في اجتياح يا ترى؟”، “حيكون وقت النفاس بغرفة فيها ١٠٠ شخص؟”، “طب وآلام المخاض معقول أتحمّلها؟”، “معقول يجي المخاض بالليل ولا بالنهار؟ لو بالليل مشكلة..بالليل يعني حاموت، الكلّ هدف مشروع للاحتلال بالليل”، “مين بدو ينقلني للمشفى وهو فش سيارات”، “معقول أقدر أمشي وأنا بطلق للمستشفى؟”، “يا ترى شنطة البيبي كافية؟”، “معقول أولد قيصري وهو فش مستشفيات؟ كتير وارد لأنو كان لازم أعمل جراحة والحرب ما خلّتني أعملها وممكن فعلًا ينفجر الرحم عندي”، “معقول لو اضطرّيت أولد قيصري أقدر أولد بمستوصف؟ بس مش مجهّز ولا نضيف وبدو كتير فلوس”، “معقول أحتاج طلق صناعي؟ شو راح يصير فيي وهو ما في هيك إشي بالمستشفيات”، هذه الأسئلة كانت تصطدم في المجهول وتعود دون أجوبة، فتترك فيها غضبًا، الخوف يتحول لغضبٍ تصدره على كل من حولها وعلى أطفالها، كانت على غير العادة أُمًا عصبيةً جدًا. تعلِّق أختها نورهان على حالتها في تلك المرحلة فتقول: “اللي مش حامل كانت تتعب وتخاف، كيف الحامل كان شي كتير مركّب”. 

عندما عادت بسلّة الأسئلة بلا أجوبة، اعتمدت هنادي طريق الدُّعاء إلى ربها، أصبحت تدعو ألا تلد أبدًا خوفًا من التجربة ومن الأسئلة التي لا جواب لها من المجهول إلا المزيد من المجهول، والمجهول يضاعف الخوف.  

“يارب ما أولد” تقول هنادي، وترد عليها أختها نورهان “طب لكل شي أجل يا حبيبتي”. أصبحت عبر تلك الأختيّة تُعقلنُ الدُّعاء في زمنٍ لا يثبُت فيه العقل من هول ما يرى، تدعو ألّا تلِدَ إلا في هُدنة، ألّا يأتي ميعاد الولادة إلا وقد انتهت الحرب، تدعو أن ترى على وجه طفلتها الخير والسعادة وقد غادرتها تلك المعاني، وأن ترى وجه طفلتها في النهار، لأن ميلاد الليل يعني أنها قد لا تراها في هذه الحياة، فالموت حتميٌّ لمن يسير في الليل في شوارع غزة.

مرت الأيّام والخوف يصل الجنين عبر المشيمة، فالشمال في مجاعةٍ صعبة، والخوف يصل في هنادي نحو القاع وما بعده. حتى انتهى الخوف، من طبع الخوف أنه لا ينتهي سوى حين يبدأ ما نخاف منه، هكذا فتحت هنادي عينيها على رعب اللحظات. 

اقترب ميلادها، بدأت تفكر في خيارات مكان الولادة، أقسام الولادة تعطّلت تمامًا في شمال القطاع في الشهر السادس من الإبادة، وبعد الهدنة الوحيدة أصبح الوضع كارثيًّا في المستشفيات لا سيما بعد الاجتياحات للمرافق الطبية والتي اتّخذها الاحتلال نهجًا في التوغلات والعمليات البرية. فهمت هنادي أن ولادتها في مشفىً تكاد تكون مستحيلة، وأن قدَرَها أن تلد في المنزل وحيدة، فلا طاقم طبي في مستشفى أصدقاء المريض الخيريّ، ومستشفى الشفاء خرج عن الخدمة وكذلك مجمع الصحابة خرج عن الخدمة ولا يستقبل حالات إلا “معارف الدكتور”، تشرح نورهان عن “معارف الدكتور”..فتقول: “والمستشفى المعمداني نفس الشي وهاد بعد عذاب طويل..يعني التوليد مُتاح لما تكوني بتعرفي دكتور من المستشفى فبتصير الولادة زي ما تقولي بالسرّ، فبنقال فلانة من طرف الدكتور فلان، فبتصير الولادة في المشفى، الدكاترة عطَّلوا قسم التوليد والنّسا، عشان جمع التبرعات يكون للأقسام التانية، هيك حرموا الأطباء النساء من الرعاية الصحيّة والإنجابيّة، وكانت حجّتهم إنو نحن في حالة طوارئ، والدعم ما عم يجي للنساء بل للجرحى، هاي الحرب عَرَّت المنظومة الطبية وشوَّهَتها بنظرنا، فوق كل شي عمله الاحتلال فينا، وكان الأمر ابتزاز، بتدفعي بنولّدك بالمشفى ع السّكت، ما بتدفعي روحي شوفي أي عيادة تولّدك وبرضه راح تدفعيلها، وما في خيارات من الأصل، برأيي حرمان النساء من الرّعاية كان مُتعمّد من قبل المنظومة الطبيّة بالإضافة لإنها مُمَنهَجة من قبل الاحتلال”. 

حضَّرَت هنادي “شنطة البيبي” رغم احتماليّة أن تضعها في المنزل، وكان تحضيرُها صعبًا للغاية فهذه الطفلة التي في أحشائها تأتي بعد غياب هنادي عن الأمومة لسبع سنوات، وهذا الحمل جاء بعد صعوباتٍ في الحمل، بالتالي لا يوجد ملابس في المنزل لأخوة أكبر من الطّفلة القادمة، والسوق خالٍ من ملابس الأطفال، والأمر تحوّل لكارثة. خاصةً أنّ الفوط الصحيّة للنّساء وكذلك فوط الأطفال لم تكن متوفّرة، وإن توفّرت ففي أماكن بعيدةٍ عن مكان سكن هنادي وتحتاج لقطع مسافات كبيرة مشيًا على الأقدام ومقابل مبالغ كبيرةٍ جدًا.

وحين جاءت ساعة الصفر، كانت هنادي محظوظة، لأنها من طرف (الدكتور فلان)، وفلان هو زوج أختها، فتطوّع أن يولّدها في المستشفى المعمدانيّ، جلَسَت على تختٍ ملوّث، حاولت أخواتها أن يُغطّينَ التلوّث بملاءاتٍ قدِمنَ بها من المنزل. كانت الغرفة بلا نوافذ، بفعل القصف جميع النوافذ مهشّمةٌ ومكسورة، كانت ترتجف مرةً من ألم المخاض، ومرةً من شدّة البرد، فقد كان الطقس في مارس لا يزال باردًا جدًا في القطاع، وكانت ترتجف مرةً ثالثةً من فقدها للخصوصية، فهي تلِدُ في غرفةٍ بلا نوافذَ وبلا ستائر، غرفة، الجميع يدخل ويخرج منها بعشوائيّةٍ تامّة، أيّ ممرّض/ة وأي طبيب/ة قادر/ة على مشاهدة ولادتها دون أن يكون جزءًا من طاقم توليدها.

ولدت هنادي طفلتها ريما في غرفةٍ مُظلمة، ولكن رغم ظلام الغرفة استطاعت أن تُميِّز زُرقَتَها، وكذلك نورهان خالة الطفلة استطاعت أن تُميِّزَ الجلد المُزرقّ تمامًا، تقول: “ما كنت أعرف إنو اللون الأزرق يعني إنها ميتة”. لم يكُن في المستشفى حاضنةُ أطفالٍ تستقبل حديثي الولادة، فقد خرج هذا القسم عن الخدمة كذلك. عندما رآها الطبيب بهذه الزُّرقة، أعلن الطوارئ، وحاول أن يطلب مساعدةَ مَن حوله من الطاقم الطبيّ، لكن الممرّضة قالت: “البنت بسبع أرواح بتعيش”، فبقي الطبيب وفقًا لهنادي لساعتين يمارس التنفّس الفمويّ للطفلة، ويحاول أن يسحب بفمه الماء الذي شربته الطفلة خلال الولادة. خلال ذلك الوقت طلبت هنادي وتوسَّلت ممّن حولها أن يخبروها إن كانت الطفلة قد ماتت. وبعد ساعتين علمت أن الفتاة قد عادت من الموت بأعجوبة ولولا الطبيب ومحاولاته لكانت الفتاة ميّتة ولسُجِّلَت كحالة وفاة.

مع ذلك تُنهي هنادي قصّة ولادتها بكثيرٍ من الامتنان، فهي “أحسن من غيرها”، رغم كلّ العذابات التي رأتها، فهي استطاعت أن تؤمِّن “شنطة البيبي”، ولم تكُن قد نزحت بعد حين جاءها المخاض، وتأمَّنَت مواصلاتُها نحو المستشفى بيُسر، وأسعَفَها أن زوج أُختها طبيبٌ في المستشفى، ورغم تأخّر إصدار شهادة الميلاد بسبب ظروف الإبادة إلا أن الطفلة ريما حصلت على ما يوثِّقُ قُدُومَهَا لهذا العالم الظالم، تستشعر العائلة ذلك وهي تَذكُر الأطفال الذين صدرت شهادة ولادتهم إلى جانب شهادة وفاتهم..الرُضَّع الذين استهدَفَهم الاحتلال بالقتل بعد أن استهدف أمهاتهم بعنف إنجابيٍّ مُركَّز. 

تختم هنادي: “بنتي كبرت وما وعيت عليها”، وتسأل خالتها نورهان: “هل سيكون الزمان لصالحها ولا عكسها؟” أنظر في وجه الطفلة الرضيعة في الصورة التي أرسلتها إليّ، وأعتقد أنه زمن الفجور العالميّ هذا الذي يعاكس هذه الوجوه الصغيرة.

أميرة..بين حَملٍ ولعنة أن تكون من غزة

ليست المسألة في غزة، بل في من هُم مِنْ غزّة. اللعنةُ ليست على المدينة وحسب بل وعلى كلّ من فيها، ولا فرارَ من اللّعنة..أدركتُ ذلك عندما عرفتُ أميرة، امرأةٌ من غزّة جاءت للأردنّ مرافقةً لابنها الجريح، والمُوصَى ببتر يده حسب الأطبّاء الذين عالجَوه في مصر قبل أن تحصل أميرة على تحويلة علاجٍ له في الأردن.

التحويلةُ شملت الطفل الجريح والأمّ المُرافِقة، ولكنها استثنَت اثنتين من بناتها المتبقّيات بعد تفجير الاحتلال منزلهم في غزة. وبهذا الاستثناء لم تقدر أميرة على الإتيانِ ببناتها الطّفلات – إحداهن دون العشر سنوات – إلى الأردن، تركتهنّ في منزل مُرافقةٍ لجريحٍ آخر قادمة من غزة أيضًا، تركتهنّ في مصر مُشرّداتٍ عمَّن بقيَ من العائلة، بعد نجاةٍ قريبة من الإبادة، فقدن فيها إخوتهم الشهداء.

في عمان تَقَرَّر عدم بتر يد طفلها، أجُريَت له العمليّات اللّازمة، وأجّلوا بضع عملياتٍ إلى حين نموّ جسمه، فالطفل دون العامين ولن يحتمل جسده كلّ تلك العمليّات. وعليه قررت أن تسافر إلى مصر لتعود لبناتها اللواتي اضطرّت إلى تركهنّ مع سيدةٍ عابرة لإنقاذ يد طفلها الجريح من البَتر. وهنا يكتشف المسؤولون في الأردنّ حمل أميرة، لتدخل في دوامة أسئلةٍ أقرَبَ للاستجواب عن سبب عدم إخبارها بحملِها ساعةَ سَفَرِها، وتخبرهم أنه لم يسألها أحدٌ حين أتَتْ عن حَملِها، ولم تتوقع أنّ عليها إخبارهم بذلك، وسوء التغذية عند نجاتها من الإبادة لم يُكسِبهَا الوزن الذي تكتسبُهُ النّساء الحوامل عادةً. فلم يكُن يبدو عليها امتلاء الجسد حتى في شهرها الأخير. 

تصطدم مع واقع ممانعة سفرها، لأسبابٍ تتعلّق بتعليمات السفر والطيران ولأسبابٍ أُخرى تتعلق بتعقيد العيش على كلّ من قال: أنا من غزة. فتطلُب استقدام طفلَتَيْها الوحيدات في بلدٍ لا يَعرفنَ عنه شيئاً، والناجيات من حرب إبادةٍ أفقَدَتهُنّ معظم العائلة والأخوة. وهنا تصطدم أميرة بالقوانين الجامدة، والتعليمات الصّارمة: لكل جريحٍ من غزّة مُرافقٌ واحد، تفضّل الأمّ على الأبّ في خيار المُرافقة! لأن احتماليّة أن يكون الأب الغزيّ إرهابياً قائمةٌ إلى أن يثبُتَ العكس.

 اتّجهَت أميرة نحو الصّليب الأحمر، فلم تتجاوَب وزارة الداخليّة مع تطوّع الصليب الأحمر لاستقدام الفتيات، صَعُبَ على أميرة الحال دون الطفلتين، وكانت أشهر حملها عبارةً عن أسابيع بكاء..بكاءٌ على أطفالها الذين استشهدوا جرّاء القصف الإسرائيليّ لمنزلٍ يعجّ بالمدنيين، يرافقه بكاء على الطفلتين الوحيدتين في مصر، ومعه حزنٌ على الزوج الوحيد والمكلوم في مخيّم النصيرات، وعلى والدتها الكبيرة في السنّ والتي تَتدثّرُ العَراء إلا من خيمةٍ مُهترئةٍ في خانيونس. يضافُ إلى كل ذلك طفلٌ دون العام يخضعُ لعلاجٍ صعبٍ في الأردن، طفل مشى أولى خطواته في أزقّة المَشفى تقول: “بس جيت في حمودة ع الأردن كان يحبي، مشى هون بالمستشفى”.

أفتّشُ عن تعريف العنف الإنجابي، تتحدّثُ التعريفاتُ الأكاديميّة عن العُنف المُلاحَظ، والمُقترِن بالفعل الصريح، مثل: الحَمْل القَسري، مثل التعقيم القسريّ. أين يقع ما حدث مع أميرة؟ مرَّت أشهر حملها بين حَملٍ وحِمل، الحَمل في الحرب، ثم فقدُ العائلة الكبيرة، وفقدُ أطفالها الشُّهداء، ثم تشتُّتُ من بقي من الأحياء، ثم التلويحُ ببتر يد طفلها المُصَاب جرّاء القصف الإسرائيليّ، ثم آلامٌ عنيفةٌ بالرأس نتيجةَ الشّظايا والارتطامات، وهذه الضّربة، والتي اعتادَت أن تُسَمّيها أميرة “الضربة اللي براسي” تترك لدى أميرة شعوراً بالصداع الحادّ، وآلامًا مُضاعفة حتى لو كان ما تعانيه مرضًا موسميًّا، أصبحت بمناعةٍ ضعيفةٍ للغاية، ولا علاج، الطبّ يقول ثمّة بؤرٌ في الدّماغ نتيجةَ ارتطامٍ حادّ، الطبُ يقول ثمّة خوفٌ من موت العَصَبْ، لكنّهم لا يملكون لها أكثر من فيتاميناتٍ لتقوية الأعصاب. 

وحدها أميرة تعرف حجم أثر الإصابة على يوميّاتِها، فالرؤيةُ لديها أصبحت مُزدوَجة، تخونُها رؤية السكّين وتمييز أبعاد الخضراوات وهي تحضّر طبق السّلطة للأطفال، تخونها الرؤية وهي تُرضِع طفلتها، تخونُها الرؤية وهي تقرأ، تريد أن تقرأ كتاباً يتحدّث عن فقه الابتلاء، تحتاج لقراءته الآن لتصنع الصبر في يوميّات الفقد، لكن الابتلاء الذي أنزله الاحتلال عليها يجعل من كلّ كلمةٍ كلمتين، ومن كل سطرٍ سطرَين خلال ممارستِها فعل القراءة.. ثم قوانينٌ في الدول العربيّة تعسِّرُ عيشَ الغزّيّ. 

وفي الختام، ولادةٌ مبكّرة. يومها اتصلتُ للسؤال عنها في المشفى حيث تقيم في مرافقة طفلها الجريح، أخبروني عن نقلها لمشفى التوليد، لم يكن ميعاد ميلادها قد حان، أخبرتني رفيقتها في المشفى: أخذت طلق صناعي بدها تولد وتخلص وترجع عند بناتها.

هل أخذته قبل الأوان؟ أجابتني: اه خلص بدها ترجع عند بناتها تركتهم ببلد غريب.

أرافق أميرة بعد ولادتها إلى الصليب الأحمر بطفلةٍ أسمتها كنزي، تحمل اسم أختها الشهيدة والمقتولة في الإبادة، طفلةٌ لا تتجاوز الأسبوع، أحملُها عنها ويظنّ النّاس في الشارع أنّي أُمّها، ويتركون نصائح نفيسةً عن خطيئة الخروج بطفلةٍ لا تتجاوز الأسبوع. أخبر أوّل ناصحٍ لنا، بأنّ معه كل الحقّ ولكن مشوارنا مهم، أهم من توصيات التعامل مع الأطفال دون الأسبوع. ثمة فتاتان  إحداهنّ دون العاشرة وحيدات في مصر.

في الطريق اسألها وتخبرني عن لحظات الولادة، تقول: “كل شي هربت منه من ساعة انقصف بيتي، من ساعة لقيتني صاحية بالمشفى بغزة وبصرّخ وين الأولاد، من لما عرفت مين منهم عايش ومين انقتل، وبعدها دوّامة تحويلة العلاج لمصر وبعدها الحكي عن بتر إيد حمودة، وبعدها الجَيّة ع الأردن، كلها أشياء كانت تمحي بعضها، وكأني بهرب من شو صار، بس لما ولدت..خلال الولادة..وبين الصحو من البنج، كنت عم بشوف كل شي، كأنه القصف هلأ، كنت أصحى على صوت القصف وأنا بالمشفى بعمان!..حكيت مع المعالج النفسي ورفضت الدوا أنا كل الوقت رفضت الدوا وهلأ ما بدي إياه، لأني برضِّع كنزي، بس من يوم ولدت ما بعرف أنام”.

الحزن المؤجل يخرج لا محالة، وحين انتهز الحزن فرصة عدم سيطرة أميرة على أفكارها وهي تحت البنج، خرج عليها على صورة ذكريات لم تسمح لها آلة الاحتلال بعيشها في أوانها..تلك الذكريات التي ظلت تتراكم داخلها طوال عدوان الاحتلال. لم تكن الحياة قد سمحت لها بالحداد حينها، الدموع حين لا تكون طازجة، تكون أكثر إعياءً لنا، عرفتُ ذلك في تجارب شخصيّة، وعرفتُه مع أميرة بشكلٍ مكثّف، تقول: “خايفة يتطوّر الإشي جواتي، خايفة يكون بداية اكتئاب ما بعد الولادة، مش وقته بالمرة، بدي أضل قويّة تا ألمّ العيلة وأجتمع ببناتي اللي بمصر”.

غطّت قناة الجزيرة مجزرة عائلة درويش، غطّتها في العواجل حين حدوثها، ولكن العواجل لم تتوقف في حياة أميرة، وأولادها الأحياء، المصاب منهم والمشرّد منهم، لكن في زحمة الإبادة، تعتبر عائلة درويش محظوظةً بتغطية المجزرة التي ارتكبها الاحتلال بحقهم..يومَ  كان لا يزال الإعلام يكرّر أن الشهداء ليسوا أرقامًا، كان ذلك في الأشهر الأولى من عمر الإبادة، قبل أن تصبح الأمم المتّحدة تورد تقاريرها حول عدد الضحايا في قطاع غزة بالنسبة المئويّة.

نود مقابلتك شخصيًا أو عبر الإنترنت

انضمي لنا